في كثير من البيوت، لا تبدأ مشكلات الأطفال السلوكية من فراغ. فحين يتكرّر توجيه الانتقادات للطفل، ويصبح جزءًا من يومه، قد لا يبقى أمامه سوى التمرد كوسيلة وحيدة للتعبير عن الألم والرفض.
فالتمرد قد يبدو في ظاهره عنادًا وسلوكًا عدائيًّا، لكنه في جوهره صرخة خفية تقول: "كفّوا عن كسر روحي".
الطفل الذي يُنتقد على الدوام، سواء في طريقته بالكلام أو لباسه أو أدائه الدراسي أو تصرفاته اليومية، يفقد الإحساس بالأمان داخل أسرته.
يشعر وكأنه مراقب تحت المجهر، وأن محبّة والديه مشروطة بإتقانه الدائم لما يُطلب منه.
ومع مرور الوقت، يتكوّن في داخله شعور مؤلم بعدم الكفاية، وبأنه لن يكون "جيدًا بما فيه الكفاية" مهما فعل.
هذه الحالة تُنتج طفلًا حساسًا، مشوّشًا، تتآكل ثقته بنفسه تدريجيًّا، وتبدأ ردات فعله في التحول من الانسحاب والحزن إلى الغضب والتمرّد وربما إيذاء الذات.
حين يتمادى الوالدان في الانتقاد، يختار الطفل "بوعي أو من دونه" أن يتحرّر من قبضة التوجيهات المستمرة عبر التمرّد. وقد يقول لنفسه: "طالما أنني مرفوض مهما فعلت، فلن أجهد نفسي بعد اليوم"، أو "سأُظهر لهم الوجه الذي يستحقون رؤيته". وهنا لا يعود التمرّد مجرّد رفض للأوامر، بل يصبح تعبيرًا ساخطًا عن جرح داخلي لم يُلتفت إليه.
ولأن الأطفال لا يملكون أدوات التعبير العاطفي الناضجة، فإن تصرفاتهم "العدوانية" غالبًا ما تخفي وراءها ألمًا نفسيًّا لا يُرى: التهرب من المدرسة، مصادقة أصدقاء ذوي سلوك منحرف، والتجريب المبكر للممنوعات، وحتى الانخراط في سلوكيات خطرة. كلها محاولات غير مباشرة للقول: "أنا موجوع".
كثير من الآباء لا يوجّهون الانتقادات بدافع الأذى، بل بدافع الحرص، ظنًّا منهم أن هذا الأسلوب سيمنع أطفالهم من تكرار أخطائهم، أو أنه سيشكّلهم بطريقة "أفضل". غير أن الواقع يُثبت عكس ذلك.
فالتربية الصارمة والمفرطة في الرقابة غالبًا ما تخلق أطفالًا يعانون القلق المزمن، وانعدام الثقة بالنفس، والعزلة الاجتماعية، أو العدوانية. كما تؤدي إلى انقطاع تدريجي في العلاقة العاطفية بين الطفل وأهله، حيث يصبح المنزل مكانًا للضغط لا للراحة.
لا يحتاج الطفل إلى الكمال، بل إلى القبول. لا يحتاج إلى سماع ملاحظات متواصلة، بل إلى من يرى ما ينجح فيه قبل أن يلفت النظر لِما يُخطئ فيه. يحتاج إلى علاقة تمنحه الإحساس بالقيمة، وتحتوي فوضاه، وتفصل بين الخطأ كفعل، وبين هويته كإنسان.
وعندما يشعر الطفل أن الخطأ لا يهدّد محبّة والديه له، يصبح أكثر قدرة على تطوير سلوكيات إيجابية وتحمّل المسؤولية عن أفعاله دون خوف أو تمرد.
عندما تتكرر دائرة: "انتقاد، تمرد، عقاب، تمرد أكبر"، فإن الطرفين يخسران. الوالدان يشعران بالإحباط، والطفل يفقد الشعور بالانتماء. ولتفكيك هذه الدائرة، لا بدَّ من وعي الأب والأم بأن الانتقاد المتواصل ليس وسيلة تربوية فعّالة، بل خطر صامت يهدد الصحة النفسية لأطفالهم على المدى البعيد.
من المهم أيضًا إعادة بناء لغة التواصل داخل البيت، والانتقال من التوجيه السلطوي إلى الحوار الهادئ، ومن التركيز على العيوب إلى تشجيع نقاط القوة، ومن ردود الفعل الغاضبة إلى التفهم والصبر.
تمرد الأطفال ليس دائمًا علامة على سوء التربية، بل قد يكون أحيانًا نتيجة لتربية تُفرط في التوجيه والانتقاد حتى تختنق مشاعر الطفل. ولكي نساعد أبناءنا على النموّ بوعي وثقة، علينا أن نتعلّم كيف نحتويهم دون أن نكسرهم، وأن نربّيهم دون أن نؤذيهم عاطفيًّا، حتى لو ظننا أن ما نفعله هو "لمصلحتهم".