لم يعد يخفى على أي أم في هذا العصر السريع كم نسينا حقيقة الحياة في وسط الزحام، فأصبحنا نطارد الأهداف والمعايير التي رسمها المجتمع لنا، دون أن ندرك المعنى الحقيقي من الحياة ذاتها.
لكن الأطفال بطبيعتهم الفطرية يقدّمون لنا دروسًا في معنى الحياة يوميًا، عبر تصرّفاتهم وانغماسهم في كل لحظة من لحظات حياتهم.
حيث يمارسون الحياة بنسخة صافية من الغاية الحقيقية، لا تسعى لإنجازات ولا تنتظر مقابلًا، بل تتناغم مع إيقاع الحياة بسعادة وبهجة.
ربما نضطر في الحياة لأن نعمل ونسعى ونحقق الأهداف لنعيش حياة طيبة، لكن في خضم هذه المساعي أن الحياة لم تُصمم بكل جمالها للعمل والإنجاز والركض فقط، بل صُممت أيضا لتُعاش ويتم الاستمتاع بها.
وهناك علميًا مصطلح اسمه " the flow" بمعنى الاستسلام للحياة بطريقة إيجابية، وتلك هي الغاية الحقيقية من الحياة والوجود. حيث ترمى هموم الغد للغد، وتُنسى آلام الماضي كما ينسى الطفل تمامًا أنه وقع بالأمس، أو أن عليه أن يفكر بمستقبله.
ورغم بساطة هذا الأمر إلا أنه درس هام من الأطفال، حتى العلم تابعه بالدراسة من خلال تعريف المفهوم الذي صاغه عالم النفس ميهالي تشيكسينتميهالي، ويصف فيه لحظات الانغماس الكامل في نشاط يحفّز المهارات ويثير الاهتمام.
ورغم أن الأبحاث ركزت على البالغين، إلا أن دراسات لاحقة، مثل تلك التي أجرتها الباحثة لوري كوستوديرو، أظهرت أن الأطفال يختبرون هذه الحالة بكثافة خاصة أثناء اللعب أو التفاعل مع الموسيقى؛ ما يدل على انسجامهم العميق مع دوافعهم الذاتية.
مع التدرج في العمر، تبدأ هذه العلاقة الفطرية مع الغاية ومعنى الحياة في التراجع. وفقًا لدراسة أجرتها كلية الدراسات العليا في التعليم بجامعة هارفارد العام 2022، أفاد 60% من الشباب بأنهم يفتقدون الشعور بالمعنى في حياتهم، وارتبط هذا الغياب بارتفاع معدلات القلق والاكتئاب.
تُعزى هذه الظاهرة إلى التحوّل من اللعب والاكتشاف إلى السعي وراء أهداف تفرضها التوقعات الاجتماعية والنجاحات القابلة للقياس.
ما يبدأ كلعبة ممتعة، يتحوّل شيئاً فشيئاً إلى مشروع إنتاجي يتطلب التقييم والتفوق، فتضيع البوصلة الداخلية لصالح التقييم الخارجي.
نقدم لك في هذا المقال ثلاث خطوات عملية مستوحاة من سلوكيات الأطفال، تساعد البالغين على استعادة الإحساس بالغاية:
الأطفال لا يلعبون ليُقدَّروا، بل لأنهم يحبون اللعب. هذه البساطة في التعاطي مع الأنشطة تفتح باباً للارتباط الحقيقي مع الذات.
تلك اللحظات التي تفقد فيها الإحساس بالوقت، سواء كنت ترسم أو تزرع أو تقرأ، هي إشارات على أنك تقترب من غايتك الحقيقية.
الأطفال لا يقارنون أنفسهم بالآخرين كما نفعل نحن. تقليص التفاعل مع المقاييس الخارجية مثل وسائل التواصل، يساعد في تهدئة التشتت واستعادة صوتك الداخلي.
في عالم يربط الغاية بالإنتاجية والإنجاز، يقدم الأطفال نموذجاً مغايراً: الغاية يمكن أن تكون ببساطة في اللعب، في الإنصات لشغفك، وفي الانغماس في اللحظة دون انتظار نتيجة.
ربما حان الوقت لنتعلم من الأطفال، لا لنوجّههم فحسب، بل لننصت لما تحمله أرواحهم من حكمة غائبة، ونسير خلفهم نحو حياة أكثر صدقاً وامتلاءً.