أنتِ من يعرفه قبل أن يعرف الحياة. أنتِ المكان الأول الذي سكنه، والصوت الأول الذي سمعه، والرائحة الأولى التي حفرتها ذاكرته قبل أن يعي وجوده. لذلك، لا عجب أن تهدأ أنفاسه حين يقترب منك، وأن تختفي نوبات بكائه في حضنك، وكأنك المفتاح الوحيد لقفلٍ لا يفتحه غيرك.
عندما تنزعج الأمهات من هذا التعلّق، أو يشعرن بأنهن الوحيدات القادرات على تهدئة الطفل، قد يتبادر إلى أذهانهن القلق أو حتى الإرهاق.
لكن ما لا تعرفه كثيرات هو أن هذا الرابط ليس فقط عاطفيًّا، بل جسديًّا وعصبيًّا أيضًا، وهو جزء من ذاكرة عميقة تُعرف اليوم في علم النفس بـ"ذاكرة الجسد الأمومي".
عند الحديث عن الذاكرة، يخطر في البال عادةً الصور أو الأحداث التي نحملها في وعينا، لكن الطفل الرضيع لا يمتلك ذاكرة واعية بعد. ما يملكه هو "ذاكرة جسدية"؛ تخزن الإحساس بالأمان أو التوتر، بناءً على التجارب الحسية المبكرة.
الأم، بتلامسها الدائم، ورائحتها، ونغمة صوتها، أصبحت البيئة التي تعلّم فيها الطفل كيف يعيش. نبض قلبها كان أول إيقاع سمعه، وأنفاسها كانت أول موسيقى تنظم عالمه الداخلي. هذه التجارب تتسجّل عميقًا في الجهاز العصبي للطفل، وتكوّن خريطة للأمان ترتبط ارتباطًا وثيقًا بجسد الأم وصوتها ودفئها.
حين تحملين طفلك، يفرز جسده وبدنك معًا هرمون "الأوكسيتوسين"، المعروف بهرمون الحب والارتباط. هذا الهرمون يساعد على خفض معدل التوتر، ويمنح شعورًا بالطمأنينة. ولهذا السبب، تهدأ نوبات بكائه فجأة عند لمسك له أو حتى عند اقترابك فقط.
ما يحدث هنا ليس تدليلًا مفرطًا أو ضعفًا في الاعتماد على النفس كما يظنه البعض، بل استجابة فطرية متبادلة مدعومة بيولوجيًّا، تؤكد أن العلاقة الأمومية ليست عاطفية فقط، بل أيضًا كيميائية وعصبية.
لكن، رغم جمال هذا الرابط، فإن الإرهاق الذي تشعر به الأمهات حقيقي ومشروع. حين لا يقبل الطفل أن ينام إلا على صدرها، ولا يهدأ إلا في حضنها، قد تجد نفسها عاجزة عن الحصول على لحظة راحة أو حتى القيام بالمهام الأساسية.
هنا، من المهم أن تعرف الأم أن التعلّق ليس دائمًا بهذا الشكل الشديد، وأن الطفل يتطور وينمو يومًا بعد يوم. التهدئة لا تعني أن الأم مسؤولة وحدها طوال الوقت، بل يمكن مشاركة الرعاية، تدريجيًا، مع أشخاص آخرين يثق بهم الطفل، مثل الأب أو الجدة أو مقدّمة رعاية قريبة.
كثيرًا ما تُطرح تساؤلات على الأمهات مثل: لماذا لا يهدأ مع والده؟، ألا تدللينه أكثر من اللازم؟، هل تعوّد على حملك؟، ولكنّ الحقيقة أن هذا السلوك هو جزء طبيعي من تكوين الطفل العصبي، وأن التعلّق بالأم، في هذه المرحلة، ليس ضعفًا بل نقطة قوة في نموه العاطفي.
فالطفل لا يطلبك لأنك الوحيدة القادرة على حمله، بل لأنك الوحيدة التي يستطيع معها الهدوء.
حين يُغرقك الطفل ببكائه ثم يتوقف لمجرد أن تلمسيه، لا تنظري إلى ذلك كتحدٍّ. بل تذكّري أنكِ الحاضنة الأولى لذاكرته الجسدية، والمرآة الأولى لطمأنينته، والمكان الذي تعلّم فيه كيف يكون بخير. إن هذه العلاقة العميقة ليست عبئًا بل امتياز، وجزء لا يُعوّض من ذاكرة الأمومة، التي قد تتعب أحيانًا، لكنها لا تفنى.