في عمرٍ مبكر، يبدأ الطفل بفهم فكرة "القبول"، ويلاحظ كيف تلمع عيوننا حين يتصرف بـ"أدب"، أو كيف يعلو صوتنا حين يرفض المشاركة، أو يعبر عن غضبه.
دون أن نقصد، نُرسل رسائل صغيرة: "افعل ما نحب، كي تُحَب". وهكذا، يبدأ الطفل في بناء علاقة خفية بين السلوك والقبول، وبين الهدوء والجدارة بالحب.
لكن هل يتعلم الطفل أنه ليس مضطرًا لأن يكون محبوبًا من الجميع طوال الوقت؟
هل نربّيه على أن قيمته لا تهتز إن عبّر عن مشاعره الحقيقية، أو إن خالف التوقعات؟
قد لا نقولها بصريح العبارة، لكن الأطفال شديدو الحساسية لنبرة الصوت، لنظرة العين، لردود الأفعال. حين نقول "أحبك لأنك مطيع"، أو "أنت طفل جيد لأنك لا تزعج أحدًا"، يتسلل إلى عقل الطفل أن الحب مكافأة، لا شعور دائم لا يرتبط بالسلوك.
مع الوقت، يبدأ الطفل في كبح مشاعره "غير اللطيفة"، أو إخفاء حزنه، أو تقديم نسخته المقبولة فقط، لكي لا يُرفض. يصبح "اللطيف" دائمًا، ولو على حساب ذاته.
بعض الأطفال لا يعصون، ليس طاعة بل خوفًا من فقدان الحب. يخشون أن يُغضبوا الكبار، أو أن يُقال عنهم إنهم "أنانيون" لمجرد أنهم قالوا "لا".
هم لا يتصرفون بدافع من الوعي، بل بدافع من القلق: "هل ما زالوا يحبونني؟"
لا يعني هذا أننا لا نعلّم أطفالنا الأدب والاحترام، بل يعني أن نمنحهم أمانًا عاطفيًا غير مشروط. أن نقول لهم، بأفعالنا قبل كلماتنا: "نحبك في لحظاتك الجميلة، كما في لحظاتك الصعبة."
وأن نُظهر لهم أن الحب لا يُنتزع، بل يُمنح. أنه لا يتطلب المثالية، بل الصدق.
هناك فرق كبير بين أن يكون محبوبًا... وأن يشعر أنه مجبر على ذلك
من المهم أن يختبر الطفل شعورًا صحيًا بالانتماء، ولكن الأهم ألا يربط هذا الانتماء بإلغاء ذاته. أن يعرف أن العلاقات لا تُبنى على كتمان المشاعر، بل على الحوار.
في المواقف الاجتماعية، قد يُوصف الطفل بأنه "غير مهذب" لأنه لم يُجامل، أو لأنه انسحب من تفاعل لم يَرتح له. دورنا هنا ليس إصلاح سلوكه فورًا لإرضاء الآخرين، بل احتضانه وفهم دوافعه، وتعليمه كيفية التعبير عن ذاته دون خوف أو خضوع.
الطفل الذي يعرف أن محبته لا تُنتزع منه إن عبّر عن رأيه، أو رفض أمرًا لا يناسبه، أو طلب مساحة خاصة، هو طفل ينمو بثقة داخلية، لا يحتاج لإرضاء الجميع كي يشعر بقيمته.
طفل يعرف أن الحب ليس نتيجة امتحان... بل قاعدة ثابتة لا تتغير.