في العلاقات القريبة، سواء كانت شخصية أو مهنية، لا شيء يبدو بسيطا مثل اختلاف وجهات النظر، حتى يُصبح مصدرا للتوتر والانفصال. فرغم أننا نتفق جميعا على أن لكل شخص رأيه، فإننا نكتشف سريعا أن التعايش مع هذا الاختلاف ليس سهلا دائما.
لماذا إذاً يُمكن لرأي مخالف في السياسة، أو حتى مجرد خلاف على ترتيب الصحون في الجلاية، أن يهدّد صداقة عمرها سنوات؟ الجواب يرتبط بالطريقة التي تتفاعل بها أدمغتنا مع التباين: نحن لا نسمع رأيا مختلفا فحسب، بل نشعر بالخطر.
عندما يوافقنا أحدهم الرأي، يشعر دماغنا بنشوة داخلية، ويتلقى دفعة من "الدوبامين"؛ ما يترجم شعورا بالأمان والتقبّل والانتماء. أما حين يُعارضنا، فننتقل تلقائيا إلى "وضع الدفاع": توتر، ارتباك، وربما رغبة في الانسحاب أو الهجوم.
في هذه اللحظة، يتحوّل النقاش البسيط إلى ساحة معركة: من يربح؟ من يخطئ؟ ومن الأجدر بالثقة؟ المشكلة أن معظمنا يربط رأيه بهويته الذاتية، ومن ثم، الشعور بأن رأينا مرفوض يجعلنا نشكّ في قيمتنا الشخصية.
الأمر لا يتعلق فقط بالمحتوى، بل بكيفية التعبير. إذا كنت تتفاعل مع شخص يميل للمواجهة، بينما تميل أنت لتجنّب الصراع، فستشعران بأنكما في دوّامة لا تنتهي. أحدكما يرى في الانسحاب "هروبا"، والآخر يراه "وقاية". التناقض هنا يزيد الضغط ويُضاعف احتمالات سوء الفهم.
كما نميل لا شعوريا إلى التركيز على أخطاء الطرف الآخر وتجاهل هشاشة حججنا. هذا الميل لتأكيد آرائنا فقط يُضعف قدرتنا على الاستماع بصدق، ويفتح الباب للتصلّب والتمسك بالمواقف من دون مرونة.
الاختلاف لا ينبغي أن يكون نهاية العلاقة. بل يمكن أن يكون فرصة لفهم أعمق وتواصل أصدق. وهذه بعض الخطوات التي تساعدك في التعامل:
هل الهدف أن "تربح"؟ أم أن تُبقي العلاقة حيّة ومحترمة؟ حين تتذكّر أن الهدف هو التفاهم وليس الانتصار، يصبح أسهل أن تهدأ وتستمع.
حين تشعر بأنك بدأت تدخل في حالة "القتال أو الهرب"، خذ نفسا عميقا، استرخِ، واجلس بوضعية مريحة. ويمكنك استخدام تقنية بسيطة من العلاج السلوكي تُسمّى "OOPS": إن أخطأت أو شعرت أن حديثك فُهم بطريقة سيئة، وسّع عينيك، ارفع حاجبيك قليلًا، وقل ببساطة: "أووه، لحظة". هذه الحركة البسيطة تقلل التوتر وتكسر حدة اللحظة.
افترض أن الطرف الآخر يمرّ بمشاعره الخاصة، وقد لا يكون القصد الإيذاء. مارس التعاطف، لكن لا تسمح بتجاوز احترامك لذاتك. يمكنك قول: "أحترم رأيك، لكن لدي وجهة نظر مختلفة وأود الحفاظ على العلاقة رغم الاختلاف."
بدلًا من الإصرار على إثبات وجهة نظرك، اسأل الطرف الآخر عن دوافع رأيه. استمع، حتى إن لم توافق. الفهم لا يعني الموافقة، لكنه خطوة نحو مساحة مشتركة.
بعض النقاشات تحتاج وقتًا للتفكّر. لا بأس أن تطلب مهلة لإعادة التوازن، بشرط أن توضّح للطرف الآخر أنك ستعود للنقاش لاحقًا، وليس كوسيلة للتهرّب أو العقاب.
أحيانًا، نُغرق أنفسنا في تفصيل صغير، وننسى قيمة العلاقة ككل. الخلاف لا يُلغي الذكريات الجميلة، ولا يشوّه الاحترام المتبادل. انظر إلى الشخص ككل، لا كخصم مؤقت.
ليس كل الأشخاص في حياتك يحتاجون أن يكونوا في الدائرة الأقرب. إذا كانت الاختلافات كبيرة وتؤثر على التقارب، يمكنك ببساطة إبقاء العلاقة على مستوى سطحي أو وظيفي، دون أن تلزم نفسك بتواصل عاطفي عميق.
الخلاف ليس الخطر.. بل طريقة التعامل معه. حين نحمي أنفسنا من ردّات الفعل الغريزية، ونتعلّم فن الإصغاء دون تنازل، نتجاوز الانقسام ونتجه نحو علاقة أكثر نضجا واتزانا. فكر في كل نقاش على أنه تدريب على الوضوح الداخلي، وليس معركة للبقاء.