في عصر تُقاس فيه القيمة الذاتية بعدد الإنجازات، وسرعة الترقّي، وحجم الراتب، بات من السهل أن ننخدع بفكرة أن "النجاح" هو مفتاح السعادة.
لكن الدراسات الحديثة، والتجارب الإنسانية العميقة، تؤكد أن هذه الفرضية ليست فقط مضللة، بل قد تكون واحدة من أكبر أوهام العصر الحديث.
فالركض خلف الإنجازات لا يمنحك السعادة، بل قد يكون وهما يقودك للتعاسة إن لم تكن واعيًا بأهدافك الحقيقية ورغباتك الحقيقية في الحياة.
نشرت منصة "Bankrate" في عام 2024 دراسة لافتة كشفت أن الأمريكيين يعتقدون أنهم بحاجة إلى دخل سنوي يُقدّر بـ186 ألف دولار ليشعروا بالأمان المالي، في حين أن المتوسط الفعلي للدخل لا يتجاوز 79 ألف دولار. أما من أرادوا الشعور بـ"الثراء"، فقد حددوا المبلغ عند 520 ألف دولار سنويًا!
هذا يؤكد نمطًا نفسيًا شائعًا يُعرف بـ"التأقلم التلذذي" أو Hedonic Adaptation، أي أن الإنسان، حتى بعد تحقيق إنجازات كبيرة أو الحصول على مكاسب مالية ضخمة، يعود تدريجيًا إلى مستوى السعادة العادي الذي كان عليه قبل هذه الأحداث.
في دراسة شهيرة أجريت عام 1978، قارن الباحثون بين مشاعر الفرح لدى من ربحوا اليانصيب وبين أشخاص تعرضوا لحوادث أدت إلى شلل دائم. وكانت النتيجة مفاجئة: بعد فترة من الزمن، تساوت مستويات السعادة بين الفئتين تقريبًا، مما يوضح أن الصدمات أو الإنجازات الكبيرة لا تملك تأثيرًا دائمًا على سعادتنا.
إذا لم يكن النجاح المالي أو الوظيفي هو الطريق إلى السعادة، فما هو؟ يشير الخبراء إلى ثلاث ممارسات قادرة على إضفاء المعنى الحقيقي على الحياة:
ليست كل الأهداف في الحياة مرتبطة بتغيير العالم أو بناء إمبراطوريات. أحيانًا يكون الهدف الحقيقي في تفاصيل صغيرة تمنحك شعورًا بالحياة، سواء كان ذلك في الرسم، أو العناية بالحيوانات، أو تعليم الأطفال، أو حتى زراعة حديقة.
هذا ما يُعرف بـ"الهدف الصغير" وهو نشاط يمنحك طاقة داخلية، ويجعلك تنغمس فيه حتى تنسى الوقت. لا يتعلق الأمر بالنتائج، بل بالشعور بالانسجام مع نفسك وأنت تقوم به.
النجاح الخارجي قابل للقياس، لكنه لا يضمن الرضا الداخلي. أن تطمح لأن تكون كاتبًا شهيرًا هو أمر جيد، لكن الأهم أن تكرّس وقتك للكتابة، للتمرين، للتطور. هذه الرحلة تُكوِّن هويتك، وهي أكثر ثباتًا من أي لقب أو جائزة.
حين تربط نفسك بالمسار لا بالنتيجة، فإنك تتحرر من القلق المزمن، وتبدأ في بناء معنى أعمق وأكثر استدامة.
دراسة هارفارد التي استمرت لأكثر من 80 عامًا لمراقبة سبل السعادة لدى البالغين، خلصت إلى نتيجة واضحة: جودة العلاقات الإنسانية هي العامل الأقوى في تحديد مستوى السعادة والصحة الجيدة، وليس المال أو المنصب.
ببساطة: العلاقات أهم من المكانة.
فالروابط الحقيقية، سواء مع العائلة أو الأصدقاء أو المجتمع المحلي، تخلق بيئة من الدعم والانتماء والمعنى. هذه الروابط لا تظهر في السيرة الذاتية، لكنها تصنع الفرق في جودة حياتك.
النجاح ليس عدوًا، لكنه ببساطة ليس ما نُقنع أنفسنا به. قيمته مؤقتة، وغالبًا ما تُهدر على مقارنات مرهقة وأهداف بلا روح.
إذا أردت حياة مليئة بالمعنى، توقف عن مطاردة "الشيء الكبير القادم". وبدلًا من ذلك:
فالحياة الطيّبة ليست محطة تصل إليها. إنها نمط يومي تبنيه، خطوة بخطوة، ووجهًا لوجه، بروح مشغولة بالمعنى أكثر من المظهر.