من اللحظة الأولى التي نحتضن فيها أطفالنا، يبدأ داخلنا صوت خفيّ يُملي علينا ما يجب أن يكونوا عليه: طفل ذكي، مهذب، متفوّق، محبوب، ناجح..
هذه التوقعات، رغم أنها غالبًا نابعة من حبنا وخوفنا وحرصنا، لا تبقى محصورة في أفكارنا، بل تتحول إلى نظرات، تعليقات، إشارات صغيرة تصل إلى الطفل وتُعيد تشكيل صورته عن نفسه دون أن ننتبه.
الطفل لا يسمع فقط ما نقوله، بل يشعر بما لا يُقال. حين ننزعج من أدائه في مهمة بسيطة، أو نعلّق بتهكم على طريقة حديثه، أو نُقارن إنجازه بطفل آخر، نحن نرسل له رسائل خفية: "أنت غير كافٍ"، "كان يجب أن تكون أفضل"، "هناك خطأ فيك".
حتى عبارات التشجيع قد تحمل توقّعًا مشروطًا، كأن نقول: "أعرف أنك ذكي وتستطيع أن تكون الأول دائمًا"، وهي وإن بدت إيجابية، قد تزرع في داخله خوفًا من الفشل وارتباطًا بين قيمته وتحقيق الإنجازات.
صورة الطفل عن نفسه لا تُبنى من الداخل فقط، بل تتغذّى من مرآة عينيكِ له. هل ترينه محبوبًا لمجرد كونه هو؟ أم مشروطًا بما يقدمه؟ حين يشعر الطفل أن حبه وتقديره لذاته يعتمدان على تلبية توقعات معينة، يبدأ في تشكيل هوية زائفة ترضي الآخرين وتُخفي ذاته الحقيقية.
بمرور الوقت، يتحول هذا الضغط إلى صراع داخلي، وقد يُظهر نفسه في صور مختلفة: خوف من التجربة، انسحاب، عصبية، كذب، أو تمرد. ليس لأنه سيء، بل لأنه لا يعرف كيف يتعامل مع العبء غير المرئي الموضوع على كتفيه.
التوقعات بحد ذاتها ليست مشكلة. من الطبيعي أن نطمح لأفضل نسخة من أطفالنا. المشكلة تكمن في كيفية التعبير عن هذه التوقعات، وفيما إذا كانت تنبع من واقع الطفل واحتياجاته وقدراته، أم من فراغاتنا نحن.
الأم الواعية لا تُلغي تطلعاتها، لكنها تجعلها مرنة، تراعي خصوصية طفلها، وتُفسح له مجالًا ليكون ذاته لا نسختها المفضلة منه.
أطفالنا لا يحتاجون إلى نسخة مثالية من أنفسهم، بل إلى نظرة صادقة تحتضن حقيقتهم، وتطمئنهم أنهم محبوبون في قوتهم وضعفهم، في نجاحهم وفشلهم. حين نُحررهم من عبء التوقعات، نمنحهم أغلى هدية: مساحة ليكونوا أنفسهم بثقة وحرية.