وسط ضغوط الحياة الحديثة وتراكم النصائح التربوية المتضاربة، تسعى كثير من الأمهات إلى الكمال في تربية أطفالهن، خشية أن ينعكس أي تقصير على نفسية الطفل أو مستقبله.
فتجد الأم نفسها محاصرة بمعايير مثالية غير واقعية، تُقاس بعدد ساعات اللعب، وكمية الصبر، وعدد المرات التي لم تغضب فيها.
ومع الوقت، يتحول السعي إلى "الأمومة الكاملة" إلى عبء ثقيل، ويحلّ الشعور بالذنب مكان الثقة بالنفس.
لكن الحقيقة التي تؤكدها الدراسات النفسية وتجارب الأمهات حول العالم، هي أن الطفل لا يحتاج إلى أم كاملة، بل إلى أم "حقيقية"، تعيش مشاعرها بصدق، وتُخطئ أحيانًا، وتعتذر أحيانًا أخرى، وتُظهر الحب حتى في لحظات التعب والانهيار.
في عصر مواقع التواصل، يبدو أن الجميع يعيش تجربة أمومة مثالية: وجبات صحية، وأطفال نظيفون، وبيوت مرتبة، وأمهات مبتسمات طوال اليوم. غير أن هذه الصور لا تعكس الواقع، بل تضع معايير خيالية يصعب الوصول إليها. ومع تكرار المقارنة، تبدأ الأم بتقليل قيمة جهودها اليومية، وبتصديق أنها لا تبذل ما يكفي، أو أنها تخذل طفلها.
الحقيقة أن الطفل لا يرى كل هذه التفاصيل، ولا يهمه إن كنتِ أعددتِ وجبة بثلاثة ألوان، أو نسيتِ غسل ملابسه في يوم ما. ما يهمّه فقط هو شعوره بالأمان معك، وإحساسه بأنك تحبينه وتقبلينه، مهما كانت الظروف.
أن تكوني "أمًا حقيقية" لا يعني أن تستسلمي للتقصير أو التهاون، بل أن تكوني حاضرة بصدق، حتى في لحظاتك الصعبة. أن تعترفي بأنك بشر، وتمرّين بالتعب والضيق، وقد تصرخين أحيانًا أو تفقدين أعصابك. لكنها لحظات لا تلغي محبة الطفل لك، بل على العكس، تعلّمه شيئًا ثمينًا: أن العلاقات لا تقوم على المثالية، بل على القرب والصدق.
في دراسة نُشرت بمجلة "Psychology Today"، أظهرت النتائج أن الأطفال الذين ينشؤون في بيئة تحتوي على القبول والمرونة العاطفية، يصبحون أكثر قدرة على بناء علاقات صحية وتحمّل الإحباط. هؤلاء الأطفال لا يبحثون عن الكمال في من يحبونهم، لأنهم تعلّموا أن الحب الحقيقي يحتمل العثرات والاختلاف.
رحلة الأمومة لا تعني الكمال، ولكنها تعني العلاقة التي تنشئينها مع طفلك، والتي تعكس فيما بعدها:
عندما تقولين لطفلك "أنا متعبة اليوم لكني أحبك كثيرًا"، فأنت توصلين له رسالة مزدوجة
أنك صادقة، وأن الحب لا يتوقف حتى في أصعب اللحظات.
البكاء أمام الطفل ليس ضعفًا، بل تعبير إنساني. الأطفال الذين يرون أمهاتهم يعبرن عن مشاعرهن، يتعلمون التعبير عن أنفسهم من دون خجل.
كل أم تخطئ أحيانًا، المهم أن تعتذري وتصحّحي، لا أن تغرقي في لوم لا يفيدك ولا يفيد طفلك.
الأمومة الحقيقية لا تعني المثالية، بل الصدق، طفلك لا يحتاج إلى نسختك الخارقة، بل إلى قلبك الدافئ وذراعيك الحاضنتين، ما يحتاجه أكثر من كل شيء، هو أن يشعر أنك حقيقية، وأن حبك له لا يتوقف حتى في أيامك الرمادية.
كوني معه كما أنتِ، لا كما يُراد لكِ أن تكوني.