منذ الطفولة، تتلقّى كثير من الفتيات رسائل متكررة "لفظية وسلوكية" تملي عليهن كيف يكنّ "جيدات". ألا يُثرن المشاكل، ألا يُظهرن الغضب، أن يضعن حاجات الآخرين أولًا، وأن يلتزمن بالأدب حتى في مواجهة الظلم أو الإهمال.
ومع مرور السنوات، يتغلغل هذا النمط السلوكي ليصبح نمط حياة. لكن خلف هذا "الامتثال النموذجي" تختبئ الكثير من المشاعر المكبوتة، والقرارات المؤجلة، والفرص الضائعة.
هذا المقال يسلّط الضوء على الثمن الخفي لهذه التربية، ويطرح تساؤلات جوهرية: هل ما نُسميه "صلاحًا" هو في الحقيقة خضوع؟ وهل يمكن للمرأة أن تكون حرة، ناجحة، وذات صوت مسموع، من دون أن تنبذ ذاتها في سبيل إرضاء الآخرين؟
منذ سنوات الطفولة الأولى، تتلقى كثير من الفتيات عبارات مدح لا تُنسى:
ورغم أن هذه الكلمات قد تبدو إيجابية وعابرة في ظاهرها، فإنها تؤسس "دون أن نشعر" لمنظومة كاملة من السلوكيات التي تلاحق المرأة حتى في نضجها، فتجعلها سجينة للمثالية، غارقة في الالتزامات، ومتعبة من الداخل، مهما بدت حياتها مثالية من الخارج.
في علم النفس السلوكي، يُعرّف التعزيز الإيجابي بأنه تقديم مكافأة أو مديح بعد سلوك معيّن؛ ما يدفع الشخص لتكرار السلوك ذاته. بالنسبة للفتيات، يكون هذا التعزيز غالبًا مشروطًا بالطاعة، اللطف، اجتناب الصراع، ومراعاة الآخرين.
فحين تُكافأ الطفلة على كبت مشاعرها، أو على "عدم الإزعاج"، أو على التضحية برغباتها من أجل راحة الآخرين، تتشكّل علاقة مشروطة بين "قبول الآخرين" و"قيمة الذات".
بعبارة أخرى، تبدأ الفتاة بالاعتقاد أن قيمتها في أن تكون مطيعة ومثالية، لا أن تكون على طبيعتها.
تمر السنوات، وتكبر الطفلة. تصبح امرأة ناجحة، نشيطة، ذات إنجازات. لكنها تجد صعوبة في قول "لا". تشعر بالذنب إن أخذت راحة، أو خافت أن تُزعج أحدهم، أو وضعت احتياجاتها أولًا.
الخوف من الرفض أو الانتقاد يتحكم في اختياراتها. تخشى أن يُنظر إليها على أنها أنانية، أو غير كفؤة، أو "ليست لطيفة كفاية".
فتوافق على ما لا يناسبها، وتُراكم المهام، وتستنزف طاقتها حتى آخر قطرة، فقط كي لا تُخيّب أمل أحد.
المرأة التي تربّت على أن الطاعة هي طريق الحب، غالبًا ما تتجنّب وضع الحدود. لا ترفض طلبًا، ولا تجرؤ على قول "هذا لا يناسبني"؛ لأنها لم تتعلم يومًا أن بإمكانها الرفض من دون أن تخسر محبة الآخرين.
هذا التجنّب يخفّف التوتر مؤقتًا، لكنه يعمّق الجرح على المدى البعيد. فمع كل مرة تتجاهل فيها ذاتها لإرضاء الآخرين، تبتعد خطوة عن احتياجاتها الحقيقية، وتخسر شيئًا من شغفها واتصالها بنفسها.
تبدو الحياة على الورق مثالية: وظيفة جيدة، إنجازات، علاقات اجتماعية. لكن داخليًا، هناك شعور مستمر بالانفصال، وكأنها تعيش حياة لا تشبهها.
تسأل نفسها:
الإجابة في الجذور. في الطفلة التي تعلمت أن رضا الآخرين أهم من رضاها. وأن محبتهم مشروطة بأن تكون دومًا "فتاة جيدة".
الخبر السار هو أن هذه الأنماط السلوكية ليست قدَرًا محتومًا. بل يمكن تعديلها وتحرير الذات منها، من خلال خطوات واعية:
عندما توافقين على شيء لا يناسبك، اسألي نفسك: هل هذا قرار نابع من رغبتي أم من خوفي؟
عند وضعكِ حدودًا جديدة، قد تشعرين بالذنب أو التوتر. هذا طبيعي. بل هو علامة على أنكِ تفككين نمطًا قديمًا.
بدلًا من انتظار رضا الآخرين، امنحي نفسكِ التقدير: "كان هذا صعبًا، لكني اخترت احترام نفسي اليوم."
التربية على الطاعة واللطف ليست دائمًا خاطئة، لكنها حين تصبح شرطًا للحب والقبول، تسرق من المرأة حقها في أن تكون حقيقية، حرة، ومتوازنة.
"الفتاة الجيدة" قد تكون قدوة في أعين المجتمع، لكنها لا تستحق أن تدفع ثمن رضا الجميع بصمتها وتعبها المستمر.
ربما آن الأوان أن نتوقف عن تعليم الفتيات كيف يُرضين الجميع، ونبدأ بتعليمهن كيف يُرضين أنفسهن أولًا.