في اللقاءات الاجتماعية، غالبًا ما يكون السؤال الأول: "ماذا تعملين؟" وكأن المهنة هي بطاقة الهوية الوحيدة التي نُعرّف بها أنفسنا.
لكن ماذا لو كانت الإجابة أعمق من ذلك؟ ماذا لو كان اختزال الذات في الوظيفة يضعنا في دائرة ضيقة، بل ويهدد استقرارنا النفسي؟
الواقع أن ربط هويتكِ بالكامل بوظيفتكِ ليس فقط غير دقيق، بل قد يكون سببًا خفيًا للتوتر، وفقدان المعنى، بل وحتى الانهيار عند أول تغيير في المسار المهني.
بحسب استطلاع أجرته مؤسسة "غالوب"، فإن 55٪ من الموظفين الأميركيين يرون أن وظيفتهم جزء كبير من هويتهم.
في المقابل، يرى 42٪ أنها مجرد وسيلة لكسب الرزق. هذا الانقسام يكشف عن عمق العلاقة بين العمل والذات، لكنّه في الوقت ذاته يطرح تساؤلات: هل هذه العلاقة صحية؟
في تقرير "غالوب" لعام 2023 حول واقع العمل عالميًا، تبيّن أن 77٪ من الموظفين حول العالم غير منخرطين فعليًا في وظائفهم، ونحو 59٪ منهم يؤدّون مهامهم بالحد الأدنى، دون حماس أو دافع. والأصعب: 44٪ يعانون من ضغط نفسي يومي.
إذن، كيف يمكن أن تكون الوظيفة مركز هويتنا، بينما لا نجد فيها أي شغف أو ارتباط حقيقي؟
هناك عدة مخاطر عند اختزال الذات في المهنة:
حين تعتمد هويتكِ على دور لا يشبهكِ، تصبحين غريبة عن نفسك، وتفقدين الإحساس بالرضا، حتى لو كان الدخل جيدًا.
حين يتحول هواكِ (مثل الرسم أو الطبخ أو الكتابة) إلى مهنة، قد تكتشفين أنكِ لم تعودي تستمتعين به، لأنه أصبح عبئًا إنتاجيًا لا مساحة فيه للمتعة.
مع تطوّر الذكاء الاصطناعي، تتعرض كثير من المهن لخطر الانقراض. شركة "Goldman Sachs" قدّرت أن 300 مليون وظيفة حول العالم قد تختفي أو تتغير بحلول عام 2030. فماذا إن كنتِ تعرفين نفسكِ بوظيفة قد لا تعود موجودة؟
كثير من المتقاعدين يشعرون بالضياع، لأنهم ربطوا أنفسهم بوظائفهم لعقود. بمجرد انتهاء الدور المهني، لا يعود لديهم شعور بالهدف أو القيمة.
الهوية الحقيقية لا تُبنى فقط على العمل، بل على القيم، والاهتمامات، والأنشطة التي تُضفين فيها ذاتكِ دون انتظار مقابل.
فكّري في "شغفكِ الصغير" ذاك النشاط الذي تنغمسين فيه بحب دون انتظار مردود مادي: قد يكون عزف العود، كتابة اليوميات، رعاية النباتات، أو التطوع مع الأطفال.
هذه الاهتمامات هي ما يُشكّل "هويتكِ الأعمق"، والتي تبقى معكِ مهما تغيّرت الوظيفة أو غيّرتكِ الحياة.
ربما حان الوقت لتوسيع الإجابة. بدلًا من الاقتصار على المسمّى الوظيفي، قولي:
"أعمل في المجال الفلاني، وأحب القراءة في علم النفس، والكتابة، وأجد نفسي أكثر حين أكون مع الطبيعة."
الوظيفة جزء من الرحلة، لا تعريف لها.
هويتكِ أكبر من بطاقة العمل، وأعمق من لقب وظيفي. لا تجعليها حبيسة مكتب أو منصب. أنتِ مجموعة من الشغف، التجارب، العلاقات، والقيم التي لا يمكن اختزالها في وظيفة واحدة حتى لو كنت تحبين ما تفعلينه.