في كل منزل ومكان عمل ودائرة اجتماعية، ثمة من يصفه الآخرون بـ"العمود الفقري"، "الركيزة"، أو ببساطة: "القويّ".
هي التي لا تنهار حين ينهار الجميع، تمسك بالخيوط، وتصلح ما أفسده الآخرون. تتذكر المناسبات، تنظّم الجداول، وتكتم الإرهاق كي لا يشعر به أحد.
تبدو هذه الصورة مثالية ومُعجبة من الخارج. لكنها في العمق قد تكون عبئًا ثقيلًا يطحن صاحبه بصمت.
ذلك أن استمرار الشخص في أداء هذا الدور، رغم الإنهاك، لا ينبع من طاقة خارقة، بل من شعور دفين بأن قيمته مرتبطة فقط بما يقدّمه. أن المحبة تُكتسب بالكفاءة، وأن القبول مشروط بالثبات.
الكفاءة أمر محمود، لكن حين تصبح أساس تقدير الذات، يتحوّل الإنجاز إلى واجب خانق. وفقًا لدراسات علم النفس، يطوّر البعض ما يُعرف بـ"الاعتماد الشرطي على تقدير الذات"، حيث لا يرون لأنفسهم قيمة إلا إذا أنجزوا أو تفوقوا. في هذه الحالة، لا تعني كلمة "فشل" مجرد خطأ عابر، بل صفعة لهويتهم الشخصية.
تُظهر الأبحاث أن هذا النوع من الاعتمادية غالبًا ما يبدأ منذ الطفولة، حين يُكافأ الطفل على نضجه المبكر، أو يُحمَّل ما يفوق عمره من مسؤوليات. يتشرّب الطفل حينها رسالة غير منطوقة: "أنت محبوب لأنك تتصرّف جيدًا"، وليس ببساطة لأنه موجود.
المجتمع يكافئ الأداء. يمنح المتفوقين فرصًا، ويصف الموثوقين بالأبطال. لكن هذه المكافآت تخفي آثارًا جانبية خطيرة: الاحتراق النفسي، القلق المزمن، الانفصال العاطفي، وانعدام القدرة على طلب الدعم أو التعبير عن الحاجة.
يرى علماء النفس أن الاستمرار في هذا النمط يؤدي إلى استنفاد الجهاز العصبي.
الجسم يدخل في حالة تأهب دائم، لا يعرف الراحة حتى حين تتاح. وقد تُترجم هذه الحالة إلى أرق، تهيّج جسدي، تقلبات مزاجية، أو حتى أعراض جسدية بلا سبب عضوي واضح.
من أكثر المفارقات إيلامًا، أن القويّ لا يسأله أحد: "هل أنت بخير؟" لأنه يبدو دومًا بخير. لا أحد يلاحظ اهتزازه لأنه تعوّد أن يبتلع ألمه بابتسامة.
ومع مرور الوقت، يصبح غير قادر على التواصل مع نفسه أصلًا، ولا يعرف ماذا يريد أو يحتاج، فقط ماذا يجب أن يُنجز.
التحرر من دور "القويّ دائمًا" لا يعني الانهيار، بل العودة إلى التوازن. ويبدأ هذا التحرر بإعادة تعريف القوة. فالقوة ليست في كبت المشاعر، بل في المرونة العاطفية. ليست في إنكار الاحتياج، بل في القدرة على الاعتراف به.
اسأل نفسك بصدق:
الإجابات ليست إدانة، بل خريطة لفهم أعمق للذات.
قد تكون هذه الرحلة غير مريحة في البداية. لكن ما ينتظرك في نهايتها يستحق: حياة أكثر صدقًا، علاقات أكثر توازنًا، وإحساسٌ أعمق بأنك محبوب لما أنت عليه، لا لما تقدّمه فقط.