قبل أن يبدأ بالكلام، وقبل أن يفهم كلمات التوجيه أو التعليم، يعيش الطفل في عالم صامت لكن نابض.
عالم تحكمه الإيقاعات، والنبرات، وحرارة اللمس، وشدة التوتر أو الهدوء في نَفَس الأم، ولكن هل هذا مجرد توقّع شاعري؟
الدراسات الجديدة في علم الإدراك وعلم النفس العصبي تقول غير ذلك، فالرضيع ليس صفحة بيضاء، بل كائن حساس، يلتقط الإشارات الدقيقة، ويخزّنها، إن ما لا نقوله له قد يكون أكثر حضورًا مما نعتقد.
في أول شهور حياته، لا يستطيع الطفل التعبير، لكنه يشعر. الأبحاث تشير إلى أن الرضع يملكون قدرة فطرية على رصد المشاعر من نبرة الصوت وتعابير الوجه، حتى قبل أن يتمكنوا من التمييز البصري الكامل.
الأم التي تحمله وهي غارقة في قلقها أو حزنها، قد تنقله إليه من دون كلمة واحدة، والأم التي تحتضنه بهدوء داخلي، حتى لو لم تتكلم، ترسل له رسالة أمان أعمق من أي جملة.
الطفل في هذه المرحلة يعيش ما يُعرف بـ"الوعي الجسدي المشترك" مع الأم، يتحرك بحسب إيقاعها، ويتنفس أحيانًا على إيقاع تنفّسها، ويتوقف عن البكاء عندما تشعر بالسكينة الحقيقية، لا المصطنعة.
هو ليس منفصلًا عنها كما نظن، بل مرتبط بطبقة عميقة من الإدراك الداخلي، لذلك فإن وجود الأم الحاضر، لا المشتت أو المتوتر، يخلق بيئة عصبية أكثر توازنًا لنمو الطفل.
في مرحلة الرضاعة، لا يحتاج الطفل إلى أم مثالية، لكنه يحتاج إلى حضور حقيقي، أن تكوني معه لا بجسدك فقط، بل بانتباهك أيضًا، أن تنظري إليه بعينيك، لا من وراء شاشة، أن تلمسيه بقلبك، لا بأداء واجب، فالحضور الصامت، المتصل، يطمئنه أكثر من كلمات تُقال بوجه مشتّت أو صوت عالٍ.
يخشى بعضهم من لحظات الصمت بين الأم وطفلها، ويعتقد أن "التحفيز" يجب أن يكون دائمًا بالكلام أو اللعب أو الأغاني.
لكن الطفل، في بعض الأوقات، لا يحتاج لتحفيز جديد بقدر ما يحتاج لفرصة لاستيعاب ما مرّ به، لحظة صمت تحمل فيها الأم طفلها بمحبة، قد تعادل في أثرها قصة كاملة؛ لأن الصمت إذا حضر فيه الحب، صار أمانًا.
الطفل في شهوره الأولى ليس غريبًا عن مشاعرنا، ولا غافلًا عن نبض قلوبنا، هو يشعر بما لا يُقال، ويتعلّم منّا قبل أن ندرّسه، في تلك المرحلة، تكون الأمومة طاقة، لا تعليمًا، وصمتًا مليئًا بالوعي، فحين نختار أن نحضر معه بكامل انتباهنا، حتى من دون كلام، نكون قد قدمنا له أول لغة يثق بها: لغة القلب.