في لحظة من لحظات القلق، قد تهمسين لنفسكِ: "هل ابني مختلف؟".
تراقبين تصرفاته بصمت، تلاحظين عزوفه عن اللعب مع أقرانه، أو تمسكه بروتين لا يتزحزح، أو تلك النظرة الغائبة التي تعجزين عن تفسيرها.
وتبدأ الأسئلة تتكاثر في رأسكِ، ثم تسمعين للمرة الأولى عبارة: "ربما يكون لديه طيف التوحد".
لكن، ماذا يعني ذلك؟ وهل يُعدّ التشخيص خطوة نحو الحل، أم مجرد تصنيف آخر يُثقل كاهل الطفل والأسرة؟
تشخيص طيف التوحد ليس نهاية المطاف، بل بداية لفهمٍ أعمق. فالأطفال على الطيف لا يتشابهون، لكن ما يجمعهم هو صعوبات في التواصل الاجتماعي، وتكرار في السلوكيات، وتمسك شديد بالتفاصيل أو الروتين.
بعضهم لا ينظر في العين، والبعض الآخر يثرثر لساعات عن موضوع واحد لا يهم سواه. بعضهم ينعزل، وآخرون يثورون فجأة لأسباب غير مفهومة.
الطبيبة النفسية جيني بيركل ترى أن هذا التشخيص، وإن بدا مخيفًا في البداية، قد يكون نقطة تحوّل إيجابية في حياة الطفل والأسرة. فهو لا يضع قيودًا، بل يكشف المساحات التي تحتاج إلى دعم ورعاية خاصة.
أظهرت دراسة كلاسيكية للباحثة لورنا وينغ أن نسبة انتشار التوحد كانت لا تتجاوز 4 من كل 10 آلاف طفل في السبعينيات، بينما تشير الأرقام الحديثة إلى أكثر من 60 من كل 10 آلاف.
لكن هذا لا يعني بالضرورة أن هناك "وباء توحد"، بل أن التشخيص أصبح أكثر دقة، وازداد الوعي بوجود حالات متوسطة أو خفيفة كانت تُهمل في السابق.
ومع ازدياد الوعي، باتت كثير من الأمهات يتساءلن: هل فعلاً نحتاج لتسمية ما يمر به الطفل؟ وهل سيستفيد فعلاً من "التصنيف"؟
إذا تم تأكيد التشخيص من قِبل مختص نفسي أو طبي، فإن الأمر لا يتوقف على كتابة تقرير.
بل تبدأ رحلة من الفهم، وإعادة ترتيب أولويات التربية والعناية بالطفل.
الطفل المشخص بطيف التوحد غالبًا ما يكون حساسًا جدًا للضوء، الأصوات، أو حتى نوع القماش على جلده.
وهنا تبدأ الأم في تهيئة بيئة حسية مريحة له. قد يكون التعليم في فصل هادئ ومنظّم أنسب له من بيئة صاخبة ومليئة بالمحفزات.
في الجانب الاجتماعي، يمكن للأم أن تدعم طفلها بلقاءات صغيرة ومنظّمة مع أطفال آخرين، أو من خلال مجموعات تنمية المهارات الاجتماعية. وليس بالضرورة أن "يندمج" بالكامل كما يُتوقع من غيره، بل يكفي أن يجد طريقة للتواصل تناسبه وتعبّر عنه.
ما يناسب طفلًا على الطيف قد لا يناسب غيره. بعضهم يستفيد من الأجهزة المساعدة للتواصل، وبعضهم يكتفي بالإشارة أو نظرة عين. المهم هو أن تكتشفي، أنتِ، أسلوبه الخاص. أن تستمعي لا إلى الكلمات فقط، بل إلى السلوك، الإيقاع، تكرار الحركات.
عوضًا عن محاولة "تغيير" الطفل، فكّري في كيف يمكن دعمه ليزدهر كما هو.
كثير من الأمهات يشعرن بالارتياح بعد حصولهن على التشخيص. ليس لأنه يقدّم حلًّا سحريًا، بل لأنه يفسّر سلوكيات طالما بدت غريبة أو مربكة. بعد سنوات من الحيرة واللوم والارتباك، يأتي التشخيص كضوء يكشف الطرق الممكنة للدعم.
التشخيص يفتح أبواب برامج التدخل المبكر، العلاج الوظيفي، دعم النطق والتواصل، والدمج المدرسي المدروس. لكنه، أيضًا، يعلّم الأم أن ترى طفلها بعيون أكثر رحمة ووعيًا.
أنتِ لا تحتاجين أن تكوني مثالية. لكنكِ بحاجة إلى دعم. ابحثي عن مجموعات الأمهات اللواتي يعشن تجارب مشابهة، تواصلي مع أخصائيين يحترمون خصوصية كل طفل، خذي فترات راحة، واطلبي المساعدة عندما تشعرين بالإرهاق.
طفلكِ لا يحتاج فقط للعلاج أو المهارات. يحتاج لأم تؤمن به، تحتضنه، وتفرح بإنجازاته الصغيرة كما لو أنها معجزات.
في النهاية... أنتِ الحاضنة الأولى لعالمه. أن يكون طفلكِ على طيف التوحد لا يعني أن هناك شيئًا "معيبًا" فيه. بل إن عالمه يعمل بطريقة مختلفة، وإنه يحتاج لمن يرافقه فيه بمحبة وصبر.
وكلما فهمتِ هذا العالم، كلما أصبح أقل غموضًا، وأكثر قابلية للازدهار.
ربما لم تختاري هذه الرحلة. لكنها اختارتكِ، لأنكِ الأقرب لأن تكوني بوصلةً له في عالم لا يُكتب فيه الحب دائمًا بالكلمات.