داخل كل علاقة أم وابنة، تنسج خيوط خفية تبني تصورات الفتاة عن نفسها، وعن العالم، وعن الحب.
والكلمات التي تختارها الأم أمام ابنتها ليست مجرد فضفضة عابرة، بل هي بذور تُلقى في تربة النفس، لتنبت لاحقًا ملامح شخصية وعلاقات تحدد مسار حياتها.
وعندما تختار الأم أن تشارك ابنتها تفاصيل خلافاتها الزوجية وهمومها العاطفية، فهي، دون أن تدري، تغرس في أعماقها تصوّرًا مضطربًا عن فكرة الارتباط، والثقة، والأمان العاطفي.
الفتاة في سنواتها الأولى أو مراهقتها تحتاج أن ترى في والديها رمزًا للاستقرار، لا ساحة معركة مفتوحة.
وعندما تجلس الأم لتروي أوجاعها وخيباتها، تضع على عاتق طفلتها عبئًا نفسيًّا يفوق قدرتها على التحمل، وتجعلها في موقع من يحكم، ويختار، وينحاز، قبل أن تكتمل أدواتها العاطفية أصلاً.
لا تكتفي الابنة بتحمّل هذا الثقل، بل تبدأ داخليًّا في بناء قناعات مشوهة: أن الحب ألم، أن الزواج معركة مستمرة، أن الثقة وهم، وأن القرب من الآخر مجلبة للخذلان.
وكلما تكررت هذه الأحاديث، ترسخت هذه الصور في أعماقها كحقائق غير قابلة للنقاش.
الابنة لا تتعلم من النصائح فقط، بل من النماذج التي تراها وتسمع عنها. حين يكون النموذج المشترك هو الأم التي تئن تحت مطرقة الوحدة، أو تشتكي من ظلم زوجها، أو تلمّح بعدم جدوى العلاقة، تترسخ لدى الفتاة قناعة عميقة بأن الارتباط العاطفي مصيره الحزن.
ومع الوقت، إما أن تهرب من الحب خوفًا من نتائجه، وإما تدخل علاقات هشة تقودها إلى المسارات المؤلمة ذاتها.
أن تكوني أمًّا لا يعني أن تخلعي درعك أمام ابنتك. ليس من العدل أن تجعليها شاهدًا صغيرًا على ما يفترض أن يبقى سريًّا وخاصًّا بين الراشدين.
حين تحكين لها همومك الزوجية، أنت لا تطلبين الدعم فقط، بل تدفعينها دون قصد لتحمل عبء إصلاح علاقتك، أو حمايتك عاطفيًّا، وهو دور يسرق منها طفولتها ونظرتها الطبيعية للعلاقات.
تحتاج الفتاة إلى أن ترى نموذجًا صحيًّا أو على الأقل متماسكًا للعلاقة. تحتاج أن تصدق أن الحب ممكن، وأن الزواج ميثاق شراكة ورحمة، حتى وإن مر بلحظات ضعف. تحتاج أن تشعر أن الأمان الداخلي لا يتزعزع بالخلافات العابرة، وأن الأزمات لا تعني النهاية دائمًا.
الصمت الواعي هنا ليس كتمانًا، بل حماية. والاعتراف بوجود خلافات لا يعني أن تكون الابنة طرفًا فيها. يمكن للأم أن تكتفي بإظهار قوة التماسك والاحتواء، دون أن تنقل التفاصيل التي تزعزع إحساس ابنتها بالأمان.
الأم حين تحكي لابنتها مشكلاتها الزوجية، لا تتحدث عن حاضرها فقط، بل تصنع ملامح مستقبل ابنتها العاطفي دون أن تشعر.
الحذر في اختيار الكلمات، والوعي بثقل الرسائل غير المباشرة، هو جزء أصيل من حماية براءة الابنة، ومنحها فرصة أن تحلم بعلاقة صحية تنمو فيها، لا أن تخشاها أو تفرّ منها.