منذ أكثر من 4 قرون، لا تزال مسرحية "روميو وجولييت" تثير إعجاب الملايين حول العالم، ليس فقط لجمال لغتها أو تراجيديتها، بل لأنها تقدم الحب على أنه تجربة ساحرة، قدرية، خارجة عن السيطرة، تمحو كل منطق، وتُلغي أي حساب.
لكن هل ما عاشه روميو وجولييت كان فعلًا حبًا حقيقيًا؟ وهل ساهم هذا العمل في ترسيخ فهم مشوّه عن ماهية الحب في أذهان الأجيال؟
عند تأمل هذه القصة بعين العلم، لا سيما علم الأعصاب، نجد أنفسنا أمام صورة مغايرة تمامًا لما يظنه كثيرون.
حين وقع روميو في حب جولييت، بدا وكأن الضوء أُضيء فجأة داخله. مشهد شاعري يتردد صداه في العبارات الشهيرة مثل "الحب من النظرة الأولى" و"كأنني أعرفه منذ الأزل". لكن العلماء اليوم يرون أن هذا الشعور الجارف ليس قدرًا، بل نتيجة تفاعل كيميائي شديد التعقيد.
تشير أبحاث علم الأعصاب إلى أن مشاعر الحب العارم تُفعّل مناطق بدائية في الدماغ غنية بالدوبامين، وهو الناقل العصبي المرتبط بنظام المكافأة والإدمان.
عند النظر إلى صورة الحبيب أو التفكير به، يضيء مركز المتعة في الدماغ، كما لو كان المرء تحت تأثير المخدرات.
وليس هذا مجازًا أدبيًا؛ بل واقعًا بيولوجيًا يؤكده الباحثون: فالحب في مراحله الأولى هو إدمان.
الدهشة الأكبر أن مستويات السيروتونين، وهي المادة المرتبطة بالهدوء والاستقرار العاطفي، تنخفض لدى المحبين الجدد إلى درجة مماثلة لتلك التي يعانيها مرضى الوسواس القهري.
وهذا يفسّر لماذا يصبح العاشق مهووسًا بالطرف الآخر، يفكر فيه باستمرار، ويبحث بلا كلل عن تأكيدات على مشاعره.
في هذا السياق، تبدو كلمات جولييت حين قالت لروميو: "حتى إن أقسمت أنك تحبني، قد يكون قسمك خادعًا"، وكأنها تعبير عن التوتر والقلق الناتج عن اضطراب كيمياء دماغها، أكثر مما هي شاعرية بريئة.
من أكثر ما يدهش العلماء أن المنطقة في الدماغ المسؤولة عن النقد والتقييم "القشرة الجبهية الوسطى" تتوقف عن العمل مؤقتًا خلال مرحلة الوقوع في الحب. وهنا يظهر "العمى العاطفي" بكل وضوح: يرى الشخص في شريكه الكمال المطلق، مهما كانت عيوبه واضحة للآخرين.
فحتى بعد أن قتل روميو قريب جولييت، لم تهتز صورته في عينيها. لم يكن ذلك فقط دليلاً على عمق حبها، بل نتيجة لانطفاء مؤقت في القدرة على الحكم العقلاني.
ما لا تخبرنا به قصة "روميو وجولييت" هو أن هذا الهوس الكيميائي لا يدوم. مع مرور الوقت، يعود الدماغ إلى توازنه: تنخفض نسب الدوبامين، ويعود السيروتونين إلى مستوياته الطبيعية، وتُعاد تفعيل المناطق النقدية. حينها، يرى الشخص شريكه كما هو، لا كما تخيله تحت تأثير الاندفاع العاطفي.
البعض لا يحتمل هذا الانتقال، فتنتهي العلاقة سريعًا. آخرون يمرون بمرحلة فتور قبل أن تتحول مشاعرهم إلى نوع أعمق وأكثر استقرارًا من الحب، قائم على العطاء والرحمة والتفاهم. هذا هو "حب التعلّق" الطويل الأمد، وهو ما لم يُمنح "روميو وجولييت" فرصة لتجربته.
ربما تكون أعظم خديعة في قصة "روميو وجولييت" أنها جعلتنا نخلط بين الحب الحقيقي والانجراف العاطفي المؤقت.
فهي تروّج لفكرة أن الحب يعني التخلي عن المنطق، تحدي المجتمع، وحتى التضحية بالحياة. لكن العلم يرى أن هذه الحالة مجرد مقدمة عاطفية قصيرة الأجل، لا يمكن البناء عليها وحدها لعلاقة ناجحة.
خلاصة القول، إن الحب ليس فقط ما تشعر به حين تلتقي بعيون شخص غريب، وتسمع دقات قلبك تتسارع. الحب الحقيقي يبدأ حين تنطفئ شرارة الافتتان، وتختار أن تستمر. حين تقرر أن ترى الآخر بوضوح، بعثراته وضعفه، وتبقى.
ربما آن الأوان لنكفّ عن البحث عن حب يشبه قصة "روميو وجولييت"، ونبحث بدلًا من ذلك عن قصة تشبهنا نحن، بواقعنا وتحدياتنا، وبقوة الاختيار لا سطوة القدر.