ليست كل المعارك صاخبة، بعضها يتسلّل إلينا في صمت، متخفّيا في هيئة صفة جميلة.
من بين تلك المعارك، تأتي المثالية؛ تلك النزعة التي تُزيّن لنا الحياة بشكل مبالغ فيه، وتُقنعنا أن النجاح لا يُحتسب إلا إذا كان خاليا من الأخطاء، وأن القيمة لا تُمنح إلا للكمال.
لكن، ما لا تقوله لنا المثالية، هو الثمن الباهظ الذي ندفعه مقابل هذه الصورة اللامعة.
فالمثالية ليست دائما فضيلة، بل في كثير من الأحيان، تتحول إلى عبء نفسي، وسجن داخلي، يقيد حركتنا ويؤجل قراراتنا، ويُشعرنا دوما أننا لسنا "كفاية".
يرتبط مفهوم الكمالية في أذهان الكثيرين بالسعي نحو الأفضل، لكن الواقع أن الكمالية المفرطة تقود إلى الاحتراق النفسي، وتولد شعورا دائما بعدم الرضا، مهما كانت الإنجازات.
فالشخص المثالي لا يرى النجاح، بل يركّز فقط على ما كان يمكن أن يكون "أفضل". يقف طويلا عند كل تفصيلة صغيرة، يؤجل البدايات خشية النقص، ويستنزف وقته وجهده بحثا عن نتيجة مثالية، قد لا تأتي أبدا.
وفي غمرة هذا السعي، تُسرق الأعمار في صمت. فالخوف من الفشل يمنع التجربة، والحرص الزائد على الجودة يُطفئ الحماسة، والتردد في اتخاذ القرار يُعرقل التقدّم.
المشكلة ليست فقط في الشعور بالإرهاق، بل في الضغط الخفي الذي تزرعه المثالية داخل النفس. الكمالي يعيش في صراع دائم بين ما هو عليه، وما يظن أنه "يجب" أن يكون عليه.
وغالبا ما يرتبط هذا الصراع بـمشاعر القلق، والإحباط، والشعور بالدونية، خاصة إذا كانت المعايير التي يضعها لنفسه غير واقعية أو مأخوذة من تصورات اجتماعية مثالية لا تمتّ للواقع بصلة.
الكمالية أيضا تؤثر على العلاقات. فالمثالي لا يطلب الكمال من نفسه فقط، بل من الآخرين أيضا؛ ما يخلق توترا في محيطه، ويصعّب عليه تقبّل الاختلاف والتقصير البشري الطبيعي.
التحرر من المثالية لا يعني القبول بالرداءة، بل يعني احتضان النقص باعتباره جزءا طبيعيا من التجربة الإنسانية. وهنا بعض المفاتيح لذلك:
أحيانا، ما يمنعنا من البدء ليس ضعف الفكرة بل الخوف من ألا تكون "مثالية". لكن البدء أهم من الكمال.
التركيز على الجهد المبذول يساعد في بناء التقدير الذاتي ويخفف من شعور النقص.
كل محاولة غير مكتملة تحمل في طياتها دروسا لا تقدر بثمن.
الكمال ليس موجودا في هذا العالم. ومن يسعى له كمن يطارد سرابا.
لمن تسعى للكمال؟ أحيانا المثالية تنبع من رغبة في إرضاء الآخرين، لا النفس. إدراك هذه الحقيقة يفتح بابا للحرية.
المثالية قد تبدو صفة لطيفة، لكنها في كثير من الأحيان تخفي وراءها عبودية خفية. إنها العدو الذي لا يصرخ، لكنه يهمس يوما بعد يوم بأنك لست جيدا بما يكفي.
وفي زمن السرعة والضغوط، أصبح التحرر من الكمالية مفتاحا للتوازن النفسي، والنجاح العملي، والرضا الذاتي. فلنمنح أنفسنا الإذن لنكون ناقصين، لنخطئ، لنتطوّر، لأن في هذا القبول تبدأ الحياة الحقيقية.