في مراحل متقدمة من النضج، تبدأ الأسئلة الهادئة في الظهور داخلنا:
إنها ليست تساؤلات عابرة، بل إشارات عميقة إلى الأشياء التي لم نحصل عليها، والأمنيات التي ذهبت في طريق آخر، والنسخ المحتملة من حياتنا التي لم تُكتب.
لكن السؤال الأهم ليس عن "ماذا لو؟"، بل: ماذا نفعل بكل هذه الرغبات التي لم تتحقق؟
وهل لِما لم يتحقق أي معنى أو قيمة؟ أم أنه مجرد فراغ يجب تجاوزه بصمت؟
غالبًا ما نعامل التجارب التي لم تحدث على أنها خسارات صامتة، كأنها أماكن مهجورة في الذاكرة لا يجوز التوقف عندها. لكن الحقيقة أن ما لم يحدث له وزنٌ خفيّ في تشكيل وعينا. فالرغبة التي لم تكتمل، والباب الذي لم يُفتح، والشخص الذي لم يأتِ، كلها تجارب تترك أثرًا في دواخلنا، وتدفعنا، دون أن ننتبه، إلى مزيد من التبصّر بالذات.
إن ما لم نحصل عليه قد علّمنا الصبر، أو أضاء لنا ما نريده حقًا، أو جعلنا نعيد التفكير في أولوياتنا. وفي بعض الأحيان، يكون غيابه هو ما دفعنا إلى طرق أبواب أخرى لم نكن لنتخيّلها.
التصالح لا يعني إنكار الألم أو تغليفه بعبارات إيجابية جوفاء، بل يعني الاعتراف بالحسرة دون أن تتحوّل إلى مرارة. يعني أن نرى بأنفسنا القوة الكامنة التي نشأت فينا من خلال النقص، والخيبة، والانتظار الذي لم يثمر.
قد لا نحصل على الحب الذي حلمنا به، لكننا تعلمنا أن نحب أنفسنا بطريقة أعمق.
قد لا نصل إلى المكان الذي أردناه، لكننا اكتشفنا قيمة الطريق الذي سلكناه.
وهكذا، يصبح "ما لم يكن" جزءًا من حكايتنا، لا عارًا نخفيه، بل نقطة تأمل نرجع إليها بامتنان لا بحسرة.
حين نتصالح مع ما لم يحدث، لا نُغلق الباب عليه، بل نمنحه مكانًا واضحًا في ذاكرتنا العاطفية. هذا لا يعيقنا عن التقدم، بل يحررنا من الجري الدائم وراء تعويض ما فات.
المصالحة مع "ما لم يكن" لا تُنهي الحنين تمامًا، لكنها تمنعه من أن يتحوّل إلى عبء. وهي تفتح لنا إمكانية عيش اللحظة الحالية برضى، لأننا لم نعد نُقارنها بصورة مثالية لماضٍ لم يحدث.
ما لم نحصل عليه، هو أيضًا جزء مما نحن عليه. إنه ليس نقصًا، بل مساحة صامتة علّمتنا كيف نملأ الفراغ بالمعنى، لا بالتعلق. وحين نبدأ برؤية الغياب من هذا المنظور، نصبح أكثر رحابة، وأقل قسوة على أنفسنا، ونفهم أن بعض الأشياء تكون أجمل عندما لا تحدث؛ لأنها قادتنا إلى أنفسنا.