تُشكّل الطفولة حجر الأساس لشخصية الإنسان، لكنها لا تكون دائمًا مرحلة آمنة أو حانية للجميع. في كثير من الحالات، يمر بعض الأشخاص بتجارب قاسية تترك أثرًا عميقًا يمتد لسنوات طويلة.
الاعتداء، الإهمال، الانفصال الأسري، الفوضى داخل المنزل، أو حتى وجود أحد الوالدين في السجن أو معاناته من اضطراب نفسي، كلها ظروف قد لا تُنسى بسهولة، وتنعكس لاحقًا على طريقة الفرد في التفكير، التعامل، والمضي قدمًا في الحياة.
ربطت دراسات متعددة تجارب الطفولة بمجموعة من السمات الشخصية التي تميل إلى الظهور في مرحلة البلوغ لدى من عاشوا طفولة موجعة. إليك أبرز هذه السمات:
الأشخاص الذين نشأوا في بيئة مليئة بالتوتر أو الألم العاطفي غالبًا ما يعانون من مشاعر سلبية مكثفة يصعب السيطرة عليها. القلق، الاكتئاب، الغضب، والذعر ليست سوى أمثلة على ردود فعلهم العاطفية. وما يزيد الأمر تعقيدًا هو أن آليات التكيف لديهم تكون ضعيفة، إذ لم يتعلموا في صغرهم كيف ينظمون انفعالاتهم أو يهدّئون قلقهم الداخلي.
قد يتخذ الغضب لدى بعض الأشخاص الذين مروا بتجارب قاسية شكلًا دفاعيًا. يظهرون عدائية في الحوار أو سلوكًا اندفاعيًا، وكأنهم في حالة استنفار دائمة. هذا السلوك قد يكون نسخة مكتسبة من البيئة المنزلية التي نشأوا فيها، أو وسيلة لا واعية لحماية النفس من التعرض لأذى جديد.
من الصعب على بعض الناجين من طفولة مؤلمة أن يثقوا بالآخرين أو ينخرطوا بسهولة في علاقات اجتماعية. قد يكونون ميّالين للانعزال، كثيري الجدال، ويفضلون الاعتماد على أنفسهم حتى في المواقف التي تتطلب العمل الجماعي. وتعود هذه السمات جزئيًا إلى شعورهم المزمن بعدم الأمان أو إلى حساسيتهم المفرطة تجاه النقد.
البعض يطارد النجاح المادي أو الاجتماعي بشراسة، ليس بدافع الطموح النقي، بل بدافع سد فجوة داخلية تركتها طفولة مؤلمة. قد يبدو هؤلاء واثقين أو متفاخرين، لكن في العمق، يدفعهم شعور بالهشاشة أو الرغبة في إثبات الذات أمام العالم.
رغم السعي وراء الإنجازات، قد يعاني هؤلاء الأشخاص من صعوبة في الانخراط الحقيقي في الحياة. يفتقدون الشغف، يواجهون صعوبة في تحديد هدف واضح، ويجدون صعوبة في الاستمتاع بالأنشطة اليومية أو حتى بالإنجازات التي يحققونها. في العلاقات الاجتماعية، يميلون إلى التحفظ وربما اللامبالاة.
صحيح أن الشخصية تميل إلى الثبات مع مرور الزمن، لكن الدراسات أثبتت أن التغيير ممكن. ويمكن للعلاج النفسي، أو بعض التدريبات الذهنية، أن تُحدث فرقًا ملحوظًا، خصوصًا فيما يتعلق بسمات مثل العُصابية أو فرط الاستجابة السلبية.
من المفيد أيضًا الاعتراف بأن هذه السمات، مهما بدت صعبة، قد تكون نتاجًا طبيعيًا لتجارب سابقة. كثيرًا ما تكون وسيلة دفاعية ضد الألم، لا دليلاً على الضعف. ولعل أول خطوة نحو الشفاء، هي التقدير الصادق لما مرّ به الفرد في حياته، والاعتراف بالقوة الكامنة في استمراره رغم كل شيء.