من يراقب مشهد أم تُرضع طفلها، قد يراه مشهدًا بسيطًا، مكررًا، لا يستحق الكثير من التأمل. حليب يُقدَّم لجسدٍ صغير، مهمة تقوم بها معظم الأمهات منذ فجر البشرية.
لكنّ الحقيقة أن هذه اللحظة العابرة تخفي في طياتها أحد أعظم أشكال الارتباط الإنساني. الرضاعة الطبيعية ليست فقط تلبية لحاجة بيولوجية، بل هي فعل وجودي، تعبير عميق عن الأمان، عن الحنان، عن تواصُل لا تُترجمه الكلمات.
في عالم تزداد فيه ضغوط الأمومة، ويُختزل فيه دور الأم في الإنجاز والرعاية الظاهرة، قد نغفل عن هذه التفاصيل التي تبدو "عادية"، لكنها في الحقيقة تشكل البنية الأولى لنفس الطفل. أثناء الرضاعة، لا ينمو الجسد فقط، بل تُزرع بذور الثقة، تُبنى روابط الأمان الأولى، وتُنشأ ذاكرة شعورية سترافق هذا الإنسان طيلة حياته، وإن لم يتذكرها.
الطفل لا يطلب صدراً يُشبع جوعه فقط، بل حضنًا يترجِم له العالم، ونَفَسًا يشعره أنه ليس وحيداً. وفي كل مرة يلتصق فيها بجسد أمه، يتلقى رسائل غير منطوقة: "أنت محبوب"، "أنت مرئي"، "أنا هنا من أجلك".
فلماذا لا نعيد اكتشاف الرضاعة كمساحة تُبنى فيها أولى اللبنات العاطفية والعقلية للإنسان؟ ولماذا لا نتوقف أمام هذه اللحظة لنفهم أبعادها الخفية، ونمنحها المكانة التي تستحقها في الحديث عن تطور الطفل وصحته النفسية؟
في كل مرة يلتصق فيها الطفل بصدر أمه، يُولد رابط جديد من الطمأنينة. لا يبحث الطفل فقط عن الحليب، بل عن الأمان، عن تلك "البيئة الأولى" التي لا تزال تشبه الرحم، حيث يُلامس نبض قلب أمه، ويشعر بحرارة جسدها. هذا الاتصال الجسدي المباشر هو ما يساعد الطفل على تهدئة جهازه العصبي، ويعيد له الإحساس بالثبات في عالم لا يزال غريبًا عليه.
تقول الأبحاث إن الرضاعة تفعّل إفراز هرمون الأوكسيتوسين لدى الأم والطفل معًا، وهو الهرمون المسؤول عن الارتباط العاطفي والشعور بالحب. وهذا ما يجعل من لحظات الرضاعة وسيلة قوية لبناء العلاقة الأولى، تلك التي سيبني الطفل على أساسها علاقاته القادمة مع العالم.
في الأشهر الأولى من الحياة، لا يستطيع الطفل التعبير عن احتياجاته إلا بالبكاء. وعندما يأتي الرد السريع والحنون من الأم عبر الرضاعة، يتعلم الطفل أن "العالم يستجيب"، أن احتياجاته تُفهم وتُلبى. هذا الإدراك البسيط، المتكرر، هو حجر الأساس في بناء الثقة بالنفس والشعور بالقيمة.
كل جلسة رضاعة، إذًا، ليست فقط وسيلة لإشباع الجوع، بل هي تجربة تكرّس الإحساس بالأمان، وتعلم الطفل أنه يستحق الحب والرعاية. ومع الوقت، يصبح هذا الشعور الداخلي هو ما يرشده للتفاعل بثقة مع الحياة.
علميًّا، يحتوي حليب الأم على عناصر نادرة ومعقدة يصعب تكرارها في الحليب الصناعي. لكنه لا يُغذي الدماغ فقط بمكوناته، بل بطريقة تقديمه. أثناء الرضاعة، ينظر الطفل في وجه أمه، يلتقط تعبيراتها، يتعرف على نبرة صوتها، يميّز روائحها. كل هذه الحواس تنشط في وقت واحد، فتُحفّز الخلايا العصبية على النمو، وتفتح المسارات الإدراكية الجديدة.
وقد أثبت العديد من الدراسات أن الأطفال الذين أرضعوا طبيعيًّا يتمتعون بقدرات معرفية أعلى، ومهارات اجتماعية أكثر نضجًا، مقارنة بأقرانهم، والسبب لا يعود فقط إلى مكونات الحليب، بل إلى طريقة التفاعل التي تحيط بهذه العملية.
مع مرور الوقت، تتراكم لحظات الرضاعة كذكريات عاطفية في لاوعي الطفل. حتى لو نسي التفاصيل، يظل في داخله شعور بأن هناك من حضنه، من استجاب لاحتياجاته، من لبّاه دون شروط. وهذه الذكريات العاطفية تُشكل ما يُعرف بـ "الذاكرة الشعورية الأولى"، التي ترافق الإنسان مدى الحياة وتؤثر في طريقة شعوره تجاه ذاته والآخرين.
الرضاعة، بهذا المعنى، ليست مهمةً يومية لأجل النمو الجسدي فقط، بل هي فرصة لبناء ذات الطفل من الداخل. إنها لحظة يحس فيها أن هناك مرسى ثابتاً، مهما تعاقبت الأيام. وكم يحتاج الإنسان في بداية حياته لهذا النوع من "الثبات"، كي يكتشف العالم لاحقًا بثقة وفضول، لا بخوف وتوجّس.
ليست كل الأمهات قادرات على الإرضاع الطبيعي لأسباب صحية أو ظروف حياتية، وهذا لا ينتقص من قدرهن أو حبهن لأطفالهن. لكن من تستطيع، فلتحاول أن ترى الرضاعة من زاوية أوسع: ليست فقط تغذية، بل علاقة، لغة صامتة، بناء طويل الأمد.
وربما حين تدرك هذه الأبعاد، لن تنشغل بكمية الحليب بقدر ما ستنغمس في لحظات القرب، في ملامح الرضيع وهو يغمض عينيه بهدوء، وفي القلب الذي ينبض بطمأنينة.. فقط لأنه هناك، في حضن أمه.