عندما نتحدث عن العلاقات التي تُشكّل شخصياتنا، غالبا ما تتجه الأنظار نحو الأبوين. فمعظم الأبحاث النفسية تُركّز على أساليب التربية ونمط التعلّق العاطفي ودور القرارات الأبوية في تشكيل الطفل.
لكن هناك علاقة عاطفية أساسية نُغفلها أحيانًا: علاقة الإخوة.
من خلال نظرية بوين لأنظمة الأسرة (Bowen Family Systems Theory)، يظهر أن الإخوة ليسوا فقط رفقاء الطفولة، بل هم "النسخة التجريبية الأولى" من العلاقات الاجتماعية، التي من خلالها نتعلّم التفاعل، والتفاوض، وحلّ الخلافات، والقيادة أو التبعية.
إنهم مرآتنا الأولى التي تعكس كيف نرى أنفسنا، وكيف نُجري علاقاتنا مع العالم الخارجي.
اعتمد بوين في نظريته على أبحاث والتر توما (Walter Toman) التي درست تأثير ترتيب الولادة على السمات الشخصية. وفقًا لهذه الأبحاث:
بوين يرى أن هذه الأدوار لا تنتهي في الطفولة، بل تمتد إلى علاقاتنا كبالغين. فالأخ الأكبر قد يتولى دائما القيادة، والأصغر قد يفضل الاتكالية أو استخدام الجاذبية الاجتماعية لتحقيق مطالبه. لكن هذه السمات تتأثر أيضا بنمط العلاقة داخل الأسرة، ولا يمكن تعميمها بشكل قاطع.
بعيدا عن الصراعات الصغيرة على الألعاب أو جهاز التحكم بالتلفاز، فإن علاقة الأخوة تُشكل منظومة عاطفية واجتماعية معقدة.
من خلالها نتعلم التعاطف، والمنافسة، والاحتواء، والمصالحة. وعلى عكس علاقة الأبناء بالوالدين، والتي تكون هرمية، فإن علاقة الإخوة أفقية، وتمنح الطفل فرصة لفهم العلاقات بين الأنداد.
وقد وجدت دراسات أن العلاقات الإيجابية بين الإخوة ترتبط بارتفاع الثقة بالنفس والمهارات الاجتماعية لدى البالغين، بينما يرتبط الصراع المستمر بينهم بصعوبات لاحقة في تكوين العلاقات والتعامل مع الضغوط النفسية.
في بعض العائلات، يتقمص أحد الإخوة دور "المُربّي البديل" إذا غاب الدور الأبوي لأي سبب، وهو ما يُسهم لاحقًا في تشكيل شخصية مسؤولة أو حنونة، لكنها أيضًا قد تكون مثقلة بالضغوط.
رغم أن علاقة الأبناء بآبائهم تقلّ في الأهمية مع التقدّم في السن، فإن علاقة الأخوة غالبا ما تستمر مدى الحياة، بل قد تبقى أقوى من علاقات الصداقة أو حتى الزواج.
ومع ذلك، لا تزال البحوث التي تتناول علاقة الإخوة نادرة مقارنة بالأبحاث التي تركّز على الأبوين.
لكن الأمر بدأ يتغيّر. فدراسات حديثة كشفت أن علاقات الإخوة تؤثر على تطور الشخصية، والمجال المهني، وحتى على الصحة النفسية. كما أن الأطفال غالبا ما يُطوّرون "تفردا سلوكيا" لتمييز أنفسهم عن إخوتهم؛ ما يُساعدهم في رسم هوية مستقلة داخل الأسرة.
في التربية: من المهم تعزيز التعاون بين الإخوة بدلًا من التنافس، وتعليمهم أدوات لحل الخلافات بدلًا من إخفائها أو تجاهلها.
في العلاج النفسي: يجب عدم الاكتفاء بفهم علاقة الفرد بوالديه فقط، بل فهم موقعه بين إخوته، وطبيعة هذه العلاقة. فهناك كثير من "القصص الخفية" التي لا تُروى إلا حين نسأل عن الإخوة.
الإخوة ليسوا فقط من شاركنا الغرف، والذكريات، والطعام. هم شُركاء في تشكيل "نظرتنا إلى الذات"، وفي طريقتنا في بناء العلاقات المستقبلية. لقد آن الأوان أن نمنح هذه العلاقة ما تستحقه من انتباه، في الأبحاث، وفي التربية، وفي العلاج.
الإخوة هم المؤلفون المشاركون في قصة حياتنا. فهم لا يصنعون فقط ذكريات الطفولة، بل يتركون بصماتهم على كل ما نصبح عليه لاحقًا.