في عالم يركض بلا توقف، أصبح التوتر ضيفًا دائمًا لا يطرق الباب بل يقتحم حياتنا وكأنه جزء طبيعي منها، نُجيد التعايش معه، نُخفيه بابتسامات مُتعبة، ونسير ونحن نحمل أثقالًا داخلية لا تُرى، لكنها في الحقيقة قادرة على سرقة الراحة من قلوبنا والصحة من أجسادنا.
في هذا اللقاء الخاص مع الدكتورة عزيزة المغيولي، أخصائية لدى مدينة الشيخ شخبوط الطبية في أبوظبي نفتح معكم نافذة مختلفة على موضوع التوتر، ونطرح أسئلة غالبًا ما يتم تجاهلها، لنقترب من زواياه الخفية ونفهمه من منظور أعمق.
التوتر النفسي أصبح جزءًا من حياتنا اليومية، ولا يكاد يمر يوم دون أن نشعر بتأثيره. توضح الدكتورة المغيولي هذه الظاهرة بقولها "أصبحت الحياة تسير بوتيرة متسارعة، بينما أجسادنا ونفسياتنا ما زالت تعمل بنظام "النجاة"، لا "السباق". أصبحنا نُطالَب بالرد السريع، والقرار الفوري، والأداء المستمر دون توقف، دون مساحة للتنفس".
وتضيف: التوتر لم يأتِ من فراغ، بل تسلل من بين رسائل البريد، والإشعارات، والمقارنات اليومية لكن الأخطر ليس في وجوده… بل في اعتيادنا عليه. أصبحنا نتعامل مع التوتر كما نتعامل مع قهوة الصباح: مرّة، ولكن لا يمكننا الاستغناء عنها. اعتدنا عليه حتى نسينا طعم الحياة من دونه. لم نفقد توازننا فجأة، بل انسحب منّا بهدوء، ونحن نقاوم بالسير أسرع.
كما تشير إلى أن التوتر أصبح خلفية مشهد حياتنا اليومية، لا بطل القصة، ولكنه يؤثر في كل لحظة دون أن نلاحظه.
الحدث هو الشرارة التي قد تؤدي إلى التوتر، ولكن التفكير هو من يُشعل الحريق أو يُطفئه.
تشرح المغيولي أن شخصًا قد يرى تأخر الطائرة فرصة لراحة غير متوقعة، في حين يرى آخر ذلك نهاية العالم. الحدث نفسه واحد، لكن زاوية الرؤية هي التي تحدد رد الفعل. أذهاننا هي التي تصنع العدسة التي نرى بها العالم، سواء كانت مكبّرة كالعدسة المكبرة أو موجهة كمرآة، ونحن من نقرر أيهما نستخدم.
وتضيف: أفكارنا تُضخّم أو تُهدّئ، تفسّر أو تُعقّد. العقل لا يتوقف عن العمل، لكنه لا يفرّق بين خطر حقيقي وخوف متخيَّل… إلا إذا علمناه ذلك.
توضح المغيولي أن التوتر المؤقت هو ردة فعل طبيعية على ظرف معيّن مثل مقابلة، موعد، مسؤولية، وهو يظهر ويختفي. أما التوتر المزمن، فهو تراكم يومي غير معلن. لا يحتاج سببًا مباشرًا، بل يكفيه نمط حياة مليء بالضغوط المؤجلة والمشاعر المكبوتة. باختصار التوتر المؤقت كجرس إنذار يرن ويهدأ بعد انتهاء السبب.
وتتابع: نُميّز المزمن حين يصبح التوتر “مزاجًا دائمًا” لا “ردة فعل”. حين نعتاد على صداع لا نفهم مصدره، على نوم متقطع، على شعور دائم بالثقل… فهذا توتر لم يعد مؤقتًا، بل أصبح أسلوب حياة متعبًا.
تؤكد الدكتورة عزيزة المغيولي أن التوتر ليس فقط حالة نفسية عابرة، بل قد يتحول إلى أعراض جسدية ملموسة. وتقول: في كثير من الأحيان، يكون المرض أول من يُبلّغ بإصابتنا بالتوتر قبل أن ندرك. فالتوتر يختبئ في المعدة (قولون عصبي)، في الجلد (أكزيما)، في القلب (خفقان)، أو في الشعر (تساقط).
تستند المغيولي إلى ما يُعرف بـ"نظرية الجسد والعقل" التي ترى أن الجسد لا يخون النفس، بل يعبّر عنها حين يصعب علينا التعبير. وتقول: ما لا نبكيه، قد يظهر في شكل أرق، وما لا نبوح به، قد يتحول إلى توتر مزمن يسكن في العضلات أو يُضعف الجهاز المناعي. ببساطة: الجسد لا ينسى… حتى ما نحاول تجاهله.
تشرح المغيولي أن الفرق بين النوعين يشبه الفرق بين شرارة تُنير الطريق وأخرى تُشعل حريقًا. فالتوتر المُحفز هو ذاك الشعور الخفيف بالقلق الذي يدفعنا للأداء، للتركيز، للاستعداد. أما التوتر المُعيق، فهو الذي يُربك التفكير، يُثقل الجسد، ويمنعنا من الحركة.
وتضيف: الأول طاقة، والثاني استنزاف. الأول يوقظك… الثاني يُطفئك.
توضح المغيولي أن هناك إشارات لا ينبغي تجاهلها، لأنها بمثابة أجراس إنذار تدعونا للتوقّف وطلب الدعم. من أبرز هذه العلامات:
محاولة السيطرة على كل شيء قد تستنزف طاقتنا النفسية، كما تقول المغيولي. نرتّب لكل احتمال، ونحمل هموم المستقبل على أكتافنا، وننسى أن بعض الفوضى صحية.
وتتابع: نظن أن التخطيط يمنع الألم، لكنه أحيانًا يسرق منا اللحظة الآمنة التي نعيشها الآن. نستهلك طاقتنا في سيناريوهات لم تحدث، بينما الحياة تمرّ.
الرمادي. لأنه اللون الوحيد الذي لا يملك هوية واضحة. ليس قاتمًا كالسواد، ولا مضيئًا كالبياض. هو اللون الذي يسرق وضوح الألوان الأخرى، ويجعل كل شيء يبدو باهتًا. والتوتر لا يصبغ الحياة بلون واحد بل يطفئ ألوانها تدريجيًّا.
توصي المغيولي ببضع عادات صغيرة لكنها فعّالة، تساعد على تقليل التوتر من دون الحاجة لتغييرات جذرية:
وتؤكد المغيولي أن هذه ليست عادات رفاهية بل صيانة يومية للنفس.
تقدم المغيولي ثلاث نصائح بسيطة لكنها عميقة لحياة أقل توترًا: