محاكمة الذات والواقع: قضايا العائلات المصرية في مسلسل "ولاد ناس"

أذواق وأطباق
فريق التحرير
13 يونيو 2021,4:29 م

فيما تتنافس شركات الإنتاج على تقديم مسلسلات مليئة بالإثارة والتشويق، وتشطح أثناء ذلك بمخيلاتها بعيداً عن الواقع، استطاع مسلسل "ولاد ناس" أن يحقق تلك العناصر، وفي الوقت نفسه يعبّر عن مشاكل حقيقية نراها ونشعر بها في واقعنا.

يبدأ مسلسل "ولاد ناس"، المتوفر حالياً على منصة "ڤيو"، بصباح عادي لعدة عائلات تجمعها مدرسة أبنائها، أو فلنقل صباحاً يبدو عادياً في البداية، حيث ينتهي النهار بحادث سير أليم لباص المدرسة يودي بحياة بعض الأطفال ويتسبب بإصابات خطيرة لآخرين، تاركاً جراحاً أعمق من تلك التي تعالجها المستشفى، ومطلقاً العنان لحبكة مذهلة تمتد على ثلاثين حلقة تصوّر ببراعة مختلف أزمات العائلات المعاصرة، ضمن تركيبة غنية من الشخصيات والعلاقات عجز أي مسلسلٍ آخر عن تقديمها، خصوصاً في المشهد الأخير المؤثر، والذي تكون فيه مختلف أطراف القضية حاضرة من أجل المرافعة الختامية في المحكمة، ويطرح أسئلة مهمة تدعو للتأمل.

التعليم والتضحيات التي لا تحتمل

يصوّر لنا مسلسل "ولاد ناس" كيف ترى الكثير من العائلات في التعليم الأمل الوحيد بضمان مستقبل مشرق لأطفالهم، والمنافسة الشديدة على المقاعد المحدودة في المدارس التي تقدّم تعليماً عالي الجودة، فيضطر الأهالي للتغاضي عن الكثير من الجوانب الأخرى المتعلقة بسلامة وسعادة أطفالهم، بما فيها القصور في القوانين والإجراءات الكفيلة بحماية سلامة الطلاب، كما هي الحال مع سائق باص المدرسة الذي لا يخضع لفحوص دورية تضمن خلوّ جسمه من المواد المخدّرة، فيتناول مسكّنات قوية ليتحمل آلام السرطان ويؤدي ذلك للحادث الأليم الذي يشكّل محور الحكاية.

وتصل تلك التنازلات لدرجة صادمة، عندما يفاجئ المسلسل مشاهديه بقبول المحامي عيسى الدفاع عن المدرسة في المحكمة، على الرغم من كون ابنه كريم في غيبوبة بسبب الحادث، وذلك ليتمكن من سداد القرض الذي أخذه لدفع أقساط المدرسة.

عيسى نفسه يطرح في المشهد الأخير أسئلة عديدة حول دور المدارس الحقيقي اليوم في ظل توفر كل المعلومات التي يحصل الطلاب عليها على الإنترنت للجميع، وما إن كان دورها يقتصر فقط على التعليم أم أن أهميته تنبع من الجانب التربوي، ومن وجود الأطفال مع أقرانٍ من سنهم يتدربون معهم على الوجود والعيش في المجتمع.

الفارق بين الإنجاب والأبوّة

كما تحضر قضية التفكك الأسري وأثرها السلبي على الأطفال في المسلسل كذلك، حيث تعرّفنا أحداث المسلسل على التأثير المأساوي للطلاق على الأطفال من خلال حكاية الطفل يوسف الذي يربيه جدّه نجيب، ليجنّبه قدر الإمكان الآثار السلبية لانفصال والديه شريف ومريم، والتي تصبح أسوأ بسبب إجراءات الطلاق الطويلة التي يخوضانها لسنوات وتجعل الطفل يمر بآلام مراقبة تفكك أسرته على مراحل طويلة تستغرق جزءاً كبيراً من طفولته.

ويظهر المسلسل ببراعة كيف يكمن للأنانية أن تحول البيت إلى جحيم للأطفال، خصوصاً إن لم يكن لديهم جد مثل نجيب رزق الله يوفر لهم بعض الحماية، حيث لم تكن الكارثة التي حلّت بابنهما كافية ليضعا خلافاتهما جانباً، إنما يحملانها مع آثارها المدّمرة إلى المستشفى على بعد خطواتٍ من ابنهما المحطم جسدياً ونفسياً بسبب الحادث.

إذاً، كما يسأل يحيى في المشهد الأخير، هل يكفي أن ننجب أطفالاً لنصبح أباءً وأمّهات؟ فكما يرى يحيى في مرافعته الأخيرة أمام المحكمة، نحن نطلب من الأشخاص استصدار رخصة لممارسة أشياءٍ بسيطة كقيادة السيارات، ولكننا لا نفعل الأمر ذاته بخصوص الأبوّة التي لا تقتصر أضرار من يسيء ممارستها على أشخاصٍ معدودين مثل قيادة السيارة، بل تمتد لتؤثر على المجتمع ومستقبله بأكمله، ويدعو لوجود رخصة مماثلة لا بد من تجديدها، كي يثبت الآباء والأمّهات أهليتهم الدائمة للاضطلاع بهذه المسؤولية الكبيرة.

ويشكّل الحادث بما تسبب به من أضرار وما كشفه من أسرار دعوة لمختلف العائلات كي تعيد تقييم علاقات الآباء والأمهات بأبنائهم وبناتهم، وبعلاقة الأزواج وما يترتب عليها من آثار على أبنائهم، ويدعو صلاح في جلسة المحكمة النهائية إلى أن يلزم كل شخص بأداء "قسم الأبوة" عند الإنجاب كي يكون مدركاً للمسؤوليات والواجبات التي ترافق هذه الخطوة، والذي يتعهد فيه: "أقسم بالله العلي العظيم الذي رزقني هذا الطفل وأوكلني على رعايته أن أعمل جاهداً على نفسي ومنكراً ذاتي لأبني فيه إنسانيته ليكون نافعاً في كل عمل صالح لأهله ولوطنه".

الصحة النفسية بلا علاج

ويسلط مسلسل "ولاد ناس"، من خلال شخصية كريم ووالدته أروى، الضوء على الجانب المظلم لأزمة الصحة النفسية في مجتمعاتنا، فمحاولة انتحار كريم تظل غامضة بلا تفسير، ويتبين أيضاً أن والدته هي صاحبة الأدوية التي تناولها لكونها مصابة باكتئاب حاد وكانت على شفير الانتحار كذلك، بدون أن يستطيع أي منهما تلقّي مساعدة جدّية في معاناتهما.

وتعكس أزمات كريم ووالدته، التي كانت خفيّة على الجميع، التعقيدات المرافقة لمن يصاب باضطرابات أو أمراض نفسية في ظل الوضع المتردي للرعاية الصحية النفسية في معظم المجتمعات العربية، وغياب أي مساعدة ميسّرة تخفف من الآثار السلبية لهذه الأزمات، إلى جانب حضور البدائل والحلول الآنية مدمرة، في ظل غياب شبه تام لأي رعاية صحية نفسية ميسّرة للجميع، والشح الكبير في عدد العاملين في مجال الصحة النفسية.

لا نهاية للتشابكات والتعقيدات والأزمات الاجتماعية والنفسية التي يتطرق لها هذا المسلسل، ولكنه أثبت بالتأكيد أن الواقع ما زال بحاجة الكثير من المعالجة والمصارحة، وأن المسلسلات الاجتماعية التي تصوّر واقعنا بكل عيوبه وشوائبه بدون مجاملة أو تلطيف ما زالت قادرة على النجاح، خصوصاً أنه لا يعالج حالات خاصة، بل يظهر لنا عائلات مصرية عادية تشبه مختلف العائلات التي تحيط بنا، والتي لا تعبّر صورتها الخارجية بالضرورة عن كم التناقضات والأزمات التي تعيشها.

المسلسل واحد من إنتاجات "ڤيو الأصلية" وهو من إنتاج شركة "سكوير ميديا"، ومن تأليف وإخراج هاني كمال، مع المنتج إبراهيم حمودة، ومن بطولة العديد من الأسماء البارزة مثل صبري فواز، وأحمد وفيق، ورانيا فريد شوقي، وصفاء الطوخي، وأحمد صيام، وماجد الكدواني، وبيومي فؤاد، وإن فاتتكم متابعته خلال شهر رمضان المبارك، يمكنكم مشاهدته عبر تطبيق "ڤيو" - خدمة بث الفيديوهات حسب الطلب الرائدة إقليمياً من "بي سي سي دبليو" (PCCW) أو الموقع الإلكتروني www.viu.com.

google-banner
foochia-logo