في عالم مثالي، لو اتخذنا دومًا قرارات صحيحة لا نندم عليها لاحقًا. كنا سنتصرّف بوعي واتزان في كل موقف، ونقول ما نريد قوله، ونختار من نحب، ونرسم حدودنا بحزم ووضوح.
لكن الواقع مختلف. فنحن، في لحظات كثيرة، نتصرف بعكس ما نعرف أنه الأفضل لنا. نبقى في علاقات تستنزفنا، نتراجع عن قول ما نشعر به، نتردد في اتخاذ قرارات نعلم يقينًا أنها ضرورية، ثم نندم.
فلماذا يحدث هذا؟. ولِمَ رغم إدراكنا العقلي للصواب، نسمح لأنفسنا بالتصرف بعكسه؟
عندما يسيطر الشعور على القرار، يختفي صوت العقل. العقل يقول: "هذه العلاقة تؤذيكِ"، بينما الخوف يقول: "لكن الوحدة أصعب".
العقل يقول: "ضعي حدًا لطفلك"، بينما الشعور بالذنب يهمس: "لا تكوني قاسية".
هذه المفارقة بين الإدراك العقلي والدافع العاطفي هي أساس معظم أفعالنا التي نندم عليها لاحقًا.
وهنا يكمن السر: القرارات التي نندم عليها لا تصدر عن جهل، بل عن هيمنة المشاعر القديمة على لحظتنا الحالية. مشاعر لا تولد من فراغ، بل هي امتداد لقصص داخلية تكونت منذ الطفولة.
كل إنسان يحمل بداخله "قصة" غير مرئية عن نفسه، وعن الآخرين، وعن العالم. هذه القصص – التي يكوّنها الطفل غالبًا في سنواته الأولى – تنشأ كوسيلة لفهم ما يحدث حوله. لكنها، ومع الوقت، تصبح عدسة يرى بها الحياة، دون أن يعي أنها عدسة مشوّهة.
مثلًا، قد تبقين في علاقة مؤذية لأنك تخشين الوحدة بشدة. هذا الخوف ليس عابرًا، بل نتاج قصة داخلية ربما تقول: "من يُترَك وحيدًا لا ينجو"، أو "أي اهتمام، حتى لو كان مؤذيًا، أفضل من الإهمال التام".
أو قد تجدين نفسك تتجنبين قول ما تحتاجينه في العلاقة خوفًا من الرفض، لأن قصتك القديمة تقول: "من يعبّر عن نفسه يُهجر".
هذه القصص لا تظهر بصيغة كلمات، بل تتجسّد على شكل مشاعر شديدة وقناعات راسخة. وكل مرة نخالف فيها صوت العقل لصالح الخوف، أو التعلق، أو التردد، فإننا نعيش وفق هذه القصص، لا وفق حقيقتنا.
الندم هو علامة على وجود وعي، وهذا أمر إيجابي. أما الذنب المفرط، فهو لا يغير الماضي، ولا يبني المستقبل. لذا، بدلًا من أن توبخي نفسك، اسأليها بلطف:
هذه الأسئلة هي بداية التحرر.
الخطوة الأولى هي الانتباه للقصص التي تتحكم فيكِ. هل تقولين لنفسك: "أنا لا أستحق أفضل"؟ "لا أحد يهتم بما أريد"؟ "الناس تتركني عندما أكون على طبيعتي"؟
هذه العبارات ليست حقائق، بل "بقايا نفسية" من ماضٍ يحتاج للمراجعة.
الخطوة التالية هي إعادة كتابة هذه القصص، أي أن تمنحي نفسك تفسيرًا جديدًا، أكثر تعاطفًا، لما حدث. أن تفهمي أن بعض مشاعرك ليست دليلاً على الواقع، بل على الجراح القديمة. وكلما ازداد وعيك بهذا، كلما قلت أخطاؤك، وقل ندمك، وبدأت في اتخاذ قرارات منسجمة مع حقيقتك.
نحن لا نندم لأننا ضعفاء، بل لأننا بشر نحمل قصصًا قديمة لم تُروَ بعد بشكل صحيح.
لكن حين نبدأ في الإنصات لأنفسنا، والتعرّف على هذه القصص، وإعادة صياغتها بوعي، فإننا لا نمنع الندم فقط، بل نفتح بابًا لحياة أكثر حرية، وقرارات أكثر اتساقًا مع من نكون حقًا.