في بعض اللحظات، يبدو العقل وكأنه عالق في حلقة لا تنتهي من الأسئلة والتوقعات والاحتمالات. نُعيد مشاهد الماضي بتفاصيلها، نحاول توقّع ردود الأفعال، ونبحث عن "الخطة المثالية" لأي موقف… لكن بدلًا من الوصول إلى حل، نجد أنفسنا مرهقين وقلقين.
هذا هو التفكير الزائد – أحد أكثر أنماط التفكير شيوعًا، والأكثر خداعًا. لأنه يبدو كأنه محاولة للفهم أو السيطرة، لكنه في الحقيقة يفاقم التوتر، ويزيد المسافة بيننا وبين مشاعرنا.
تشير الأبحاث إلى أن التفكير الزائد يرتبط بشكل مباشر بالقلق. فعندما نشعر بعدم اليقين، نحاول أن نعوّضه بالمزيد من التفكير: نُحلل، نُراجع، نتخيل، نُعيد ترتيب الأحداث، وكأننا نحاول السيطرة على المجهول عن طريق العقل وحده.
لكن علم النفس العائلي، وتحديدًا نظرية النُظم الأسرية لبوين، يوضح لنا أن هذا السلوك ليس فقط استجابة لحظة توتر، بل قد يكون نمطًا مكتسبًا من بيئة الطفولة.
فالطفل الذي نشأ في بيئة لا تُشجّع على التعبير العاطفي، أو تُقلّل من المشاعر، يتعلم أن الحلّ الوحيد هو اللجوء إلى العقل لتجنّب الانفجار العاطفي. وهكذا، ينمو على عادة "التفكير بدلاً من الشعور"، ويُصبح التفكير الزائد درعًا للهروب من الألم.
أحد أخطر الجوانب الخفية للتفكير الزائد هو أنه يُبعدنا عن مشاعرنا الحقيقية. فعندما نُحلل ونُفكك ونُخطط طوال الوقت، نُصبح منفصلين عن أحاسيسنا. لا نسمح لأنفسنا بالشعور بالحزن أو الغضب أو القلق، بل نحاول فهمها أو السيطرة عليها.
بعبارة أخرى، التفكير الزائد لا يُخفي المشاعر، بل يُعطّل اتصالنا بها. وهذا قد يؤدي إلى عزلة داخلية، وشعور مستمر بعدم الارتياح من دون معرفة السبب.
للتخلّص من هذا النمط، لا يكفي أن "نتوقّف عن التفكير". بل يجب أن نُعيد تدريب الدماغ على التفاعل بشكل مختلف مع القلق والمشاعر. إليكِ بعض الخطوات المدروسة:
اسألي نفسك عند الوقوع في التفكير المفرط: "هل أُفكر بهذه الطريقة لأتجنّب مشاعري؟" فقط إدراكك لهذا النمط يُعيدك إلى لحظة الوعي.
مثل التنفّس العميق، ملامسة شيء بملمس واضح (كالحصى أو القماش)، أو ملاحظة تفاصيل في المكان من حولك. هذه التمارين تُعيدك إلى اللحظة الحالية، وتُهدئ التوتر الجسدي المرتبط بالقلق.
هل ما أفكر فيه حقيقة واقعة أم مجرّد سيناريو في رأسي؟ هذا السؤال البسيط يعيدك إلى الأرض.
أي القدرة على الشعور بالعاطفة من دون أن تسيطر عليكِ، وأن تبقي على تواصلك مع نفسك والآخرين من دون فقدان التوازن. يمكن التدرّب على ذلك من خلال الحديث الصريح، أو التدرّج في مواجهة المواقف التي تخشينها.
عندما نُكرّر نمطًا معينًا من التفكير، يتكوّن "طريق" عصبي في الدماغ يُسهّل هذا النمط ويجعله الخيار التلقائي. فكلما فكّرنا بشكل زائد، أصبح هذا المسار أقوى، وصار الرجوع عنه أصعب.
لكن الخبر السار هو أن الدماغ مرن. يمكننا تشكيل مسارات جديدة من خلال التمرين والوعي. ومع الوقت، تصبح طرق التعامل الصحية هي الطرق "السريعة" التي يلجأ لها الدماغ.
في الختام: ليس عيبًا أن تُفكري كثيرًا، لكن اسألي نفسك دائمًا:
"هل أُفكّر لأهرب من مشاعري، أم لأفهمها؟"
كل تغيير يبدأ بالوعي. وكل مرة تُدركين فيها أنك عالقة في دائرة التفكير المفرط، وتختارين التوقف، أنتِ تُعلّمين دماغك خيارًا جديدًا.
تذكّري: الهدف ليس التوقف عن التفكير، بل إعادة التوازن بين التفكير والشعور، بين العقل والقلب. وعندها، لن يكون التفكير فخًا… بل أداة وعي حقيقي.