في خضم الضجيج اليومي والتوجيهات التي تمطرنا بها الكتب والمقالات والخبراء، ننسى أحيانا أن بداخلنا بوصلة. صوت خافت لا يصرخ لكنه لا يخطئ، يعرف طريقه دون خريطة، ويقودنا إلى ما يناسبنا حقًا: إنه الحدس.
الحدس ليس شعورا عابرا أو رفاهية عاطفية، بل هو جزء متأصل في تركيبتنا البشرية، غريزة داخلية وامتداد للفطرة التي فُطرنا عليها. ولعل أعظم ما نملكه كبشر هو تلك القدرة الطبيعية على الإحساس بما هو صحيح قبل أن ندركه بالعقل.
لكن في عالم يقدّس التحليل والمنطق والتخطيط، يبهت هذا الصوت، ويكاد يضيع بين الأصوات الأخرى التي تطلب إثباتات وأسبابا لكل خطوة. وهنا يصبح السؤال: كيف نعود إلى فطرتنا؟ وكيف نسمح لحدسنا بأن يقودنا؟
الفطرة ليست قالبا جامدا، بل وعي داخلي نقي، يربطنا بذاتنا الأعمق، وبالحقائق البسيطة التي لا تحتاج إلى تنظير.
حين يولد الطفل، يعرف تماما متى يشعر بالجوع، متى يريد النوم، ومن يشعر بالأمان معه. لا يحتاج إلى تحليل، فقط يشعر ويتصرف. هذه الفطرة الصافية هي ما نفتقده حين نُربّى على التردد، والخوف من الخطأ، والتفكير الزائد.
مع الوقت، نُربّى على إسكات أصواتنا الداخلية لصالح "ما يُفترض أن يكون"، نتعلم أن نطلب الإذن لنشعر، وننتظر أن يخبرنا أحد كيف نعيش. التعليم، الثقافة، وحتى التربية العائلية أحيانا، تكرّس فكرة أن الآخر يعرف أكثر، وأن العقل يجب أن يسبق الإحساس دوما.
وهكذا، حين نواجه خيارا مصيريا مثل اختيار شريك الحياة، طريق مهنة، أو حتى طريقة تربية أطفالنا، نجد أنفسنا تائهين، رغم وفرة المعلومات. لأننا ببساطة فقدنا الاتصال مع المصدر الأهم: حدسنا.
إليك أبرز القواعد التي تجعلك تتصل مجددا بحدسك:
القرارات الحدسية لا تُصنع تحت الضغط. الصمت، والتأمل، وحتى الانفصال المؤقت عن الضوضاء الرقمية، يساعد على إعادة تفعيل البوصلة الداخلية.
الجسد لا يكذب. تسارع القلب، انقباض المعدة، راحة غامضة، أو ضيق لا مبرر له... كلها إشارات صامتة من حدسك تخبرك بما لا تستطيع الكلمات التعبير عنه.
إحدى علامات عودة الحدس أنك تعرف متى ترفض شيئا لا يناسبك، دون الحاجة إلى شرحه للآخرين.
كثيرا ما نقول "كنت أعرف أن هذا القرار خطأ" أو "شعرت أن هذا الشخص غير مريح". هذه التجارب تثبت أن الحدس كان حاضرا، لكننا تجاهلناه.
في تجربة الأمومة تحديدا، يتجلى الحدس في أوضح صوره. كثير من الأمهات يشعرن بما يحتاجه أطفالهن قبل أن يعبروا عنه. يعرفن متى يكون سبب البكاء جوعا، أو خوفا، أو احتياجا لاحتضان. حين تُنصت الأم لحدسها، تتجاوز الوصفات الجامدة، وتمنح طفلها الرعاية التي "تناسبه" لا التي يُقال إنها "الصحيحة".
العودة للفطرة لا تتعارض مع التفكير، لكنها تضعه في مكانه الصحيح: مساعد، لا قائد. فالقرار الصحيح هو ذاك الذي يتوازن فيه الحدس مع العقل، وتُمنح فيه الغريزة فرصة لتقول كلمتها.
أن تعود إلى فطرتك لا يعني أن تهرب من الواقع، بل أن تعيشه ببصيرة أوضح. أن تثق بأن في داخلك معرفة لا تُقاس بالأرقام، ولكنها تقودك للقرار الذي يشبهك. كل ما عليك هو أن تصمت قليلاً، وتستمع لنفسك. وستجد الطريق.