قد يمرّ كل إنسان بمواقف مؤلمة، أو يتعرّض لظلم أو خيبة، فيشعر بالضعف أو العجز.
وهذا شعور إنساني طبيعي في لحظته. لكن المشكلة تبدأ عندما يتحوّل هذا الإحساس المؤقت إلى هوية كاملة يتقمّصها الإنسان في كل تفاصيل حياته.
وهنا يظهر ما يُعرف بـ"دور الضحية" وهو نمط نفسي خفي قد يبدو للوهلة الأولى وسيلة لحماية الذات أو جذب التعاطف، ولكنه في الحقيقة أحد أكثر الأدوار تدميراً للنمو الشخصي والعلاقات والصحة النفسية.
دور الضحية لا يعني أن الشخص فعلاً ضحية لحدث مؤلم، بل يعني أنه يتبنى هذا الدور كوسيلة لفهم العالم والتفاعل معه. فيُفسّر كل ما يحدث له على أنه ظلم مقصود، ويُسقِط المسؤولية عن نفسه تماماً، ويتوقع من الآخرين أن ينقذوه، أو يعوضوا له ما يفتقده.
ويظهر ذلك في عبارات متكررة مثل:
قد تبدو هذه العبارات مألوفة، لكنها تحمل في طيّاتها رفضاً عميقاً لتحمّل المسؤولية وتغيير الواقع.
في كثير من الأحيان، يتشكّل هذا الدور في الطفولة المبكرة، عندما يواجه الطفل مواقف يشعر فيها بالضعف أو الإهمال أو الرفض دون أن يجد من يوجهه أو يمنحه الدعم الكافي لتجاوزها. فيتعلم أن الاستسلام أو إظهار الألم قد يكون وسيلته الوحيدة لجذب الاهتمام أو الحماية.
ومع الوقت، يتجذر هذا النمط ليصبح طريقة معتادة للتعامل مع أي موقف، فيُفضّل الإنسان أن يبقى في منطقة الراحة، حتى لو كانت مؤلمة، بدلاً من مواجهة واقعه وتحمّل مسؤولية تغييره.
اللعب المستمر لدور الضحية يستهلك من الإنسان طاقته الذهنية والعاطفية. ومن أبرز آثاره:
يفقد الشخص ثقته بنفسه وبقدرته على اتخاذ قرارات أو التأثير في محيطه.
يُثقل على من حوله بشكواه المستمرة أو شعوره بالخذلان، ما يؤدي إلى تباعد الآخرين عنه.
يتراجع عن تحقيق الأهداف بحجة الظروف أو ظلم الحياة.
لأنه يرى نفسه مستباحاً من الجميع.
لأن من يتقمّصه لا يُدرك أنه يعيش داخل "سجن وهمي" صنعه بنفسه، وأنه من الصعب تحقيق أي نمو أو تغيير حقيقي طالما لم يتخلّ عن هذا القناع.
دور الضحية يمنع الإنسان من التعلّم من أخطائه، ويجعله يرى التحديات كإهانات بدلاً من أن يراها فرصاً للتطور.
والأسوأ أنه قد يعيد إنتاج نفس المواقف السلبية في حياته بشكل غير واعٍ، فقط ليؤكّد "سرديته" بأنه ضحية.
العيش بدور الضحية قد يبدو مريحاً على السطح، لكنه يستهلك أعواماً من حياة الإنسان دون أن يدرك. هو دور ناعم في مظهره، لكنه صلب في أثره على الروح والعلاقات والفرص.
والتخلّي عنه لا يعني إنكار الألم، بل يعني الاعتراف به والقرار بعدم منحه سلطة قيادة حياتنا. في النهاية، لا يمكن أن نكون أحرارًا ما دمنا نقف في الزاوية ننتظر من ينقذنا.
الحرية تبدأ حين ننتبه لأنفسنا، ونختار أن نكون أبطال قصتنا لا ضحاياها.