فيديو

12 يناير 2020

"بربري".. من ملابس الرعاة ومنبوذي الحانات إلى ماركة الأثرياء!

لم يكن يدري الشاب توماس بربري، ابن الفلاح البسيط في قرية بروكهام غرين الإنجليزية أن قطعة قماش باهتة اللون ستغير حاله وتجعله لوردا مليونيريا تدين له المملكة البريطانية بالفضل والامتنان.

بدأت تفاصيل القصة التي غيرت تاريخ الموضة وتجارة التجزئة أواخر عام 1856 عندما قرر برباري الذي كان يعمل مساعد بائع قماش في أحد المحال الإنجليزية، فتح متجره الخاص في مدينة إسينغستوك الريفية الصغيرة التي يبلغ عدد سكانها أكثر من 4500 نسمة.

وكانت مغامرة غير محسوبة لشاب في الواحد والعشرين من العمر، يملك القليل من الخبرة، والكثير من الفضول والذكاء، فكرَّس كل جهوده لتطوير نوعية من القماش، تختصر عليه الطريق نحو الثروة والمال، فقضى شهورا يبحث ويجرب نوعيات وخامات قماش مانعة لتسرب الماء، تكون مناسبة لسكان قريته من المزارعين والصيادين، الذين يعانون سوء الطقس الإنجليزي، ونوعية الملابس الصوفية، التي كانت تخزن العرق والروائح الكريهة.

الجبردين.. خيوط الثروة وملابس الرعاة

لقد أدرك برباري وجود فجوة واضحة في السوق يمكنه سدها؛ فبدأ يقوم بتجارب على ملابس رعاة هامبشاير، الذين كانوا يرتدون ملابس مصنعة من الصوف، ومغلفة بخليط الشمع المعروف باسم «اللانولين»، أو ما يعرف بشحوم الصوف، حيث تقاوم هذه الملابس تسرب الماء قليلا، لقد ألهمت تقنية الرعاة برباري، وبعد سنوات من البحث توجت جهوده باختراع قماش الجبردين المضاد للماء والمطر، والذي يتميز بنسيجه المتين والخفيف، الذي يحافظ على القطعة لمدة طويلة دون تخزين روائح العرق.

لقي القماش الجديد إعجابا وإقبالا واسعين من طرف الزبائن، خصوصا الرياضيين والصيادين، كما ارتدى المستكشف القطبي البريطاني المعروف، السير أرنست شاكلتون، بدلة من قماش الجبردين من برباري في بعثاته الثلاث الاستكشافية إلى القطب الجنوبي.

هذا النجاح أكسب محل برباري الصغير سمعة وصيتا واسعين في المدينة، وبدأ برباري يحيك قصة نجاحه بخيوط ذهبية، حتى تمكن عام 1912 من تسجيل براءة اختراع معطفه الأيقوني الشهير باسم «الترانش» أو الخندق، حيث ارتداه الجنود البريطانيون في الخنادق أثناء الحرب العالمية الأولى.

"الترانش".. معطف الحروب والعمل الوطني

لقد أعجب الجيش البريطاني بتصميم وقماش معطف الترانشكوت لبرباري، وفضله كبديل خفيف عن المعاطف العسكرية الثقيلة والطويلة، التي كان يرتديها الجنود في الحروب، حيث لم تكن عملية وتعرقل مناوراتهم، وكان جنود بريطانيا يحتاجون إلى معاطف قصيرة وخفيفة الوزن ومرنة ومضادة للمطر، فكان معطف برباري هو اللباس الأنسب للجيش البريطاني، الذي لبسه بفخر، حتى بعد عودته من الحرب العالمية.

واجتهد بربري لدعم جيش بلاده، وحرص على تصميم كل ميزة في معطف الخندق لوظيفة محددة، حيث أضاف شريطا رفيعا على الأكتاف، لعرض رتبة الضباط، وأزرارا وأحزمة على الخصر واليدين، وجيوبا ليحمل فيها الجنود الأجهزة في الحرب، وجعل طول المعطف تحت الركبة فقط حتى لا يحمل أوحال الخنادق وطينتها، كما صمم الطية أيضا على الظهر، لتتيح للجنود سهولة الحركة عند الركض أو ركوب الخيول، وجعل اللون «الكاكي» لونا تمويهيا؛ لكي لا يتمكن العدو من كشف أمرهم.

ولم يكن معطف الخندق الزيَّ المفضل للجنود البريطانيين في ساحات الحرب، حيث قام المدنيون من كلا الجنسين بشراء المعاطف أيضا، وكان البريطانيون، الذين يرتدون المعطف يرونه بمثابة عمل وطني، ووسيلة لإظهار تضامنهم ودعمهم لجنود بلادهم.

تقول الدكتورة جين تينان، المحاضرة في تاريخ التصميم بكلية سنترال سانت (مارتينز) ‎للفنون في لندن: «إن معطف الخندق لبرباري هو رمز للحظة الفريدة في التاريخ، والتي شكلتها الحرب العالمية الأولى، وأيقونة لها».

الملابس تصنع الرجل

بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، قام بربري بإعادة تشكيل معطف الخندق، ليصبح ثوبا لأصحاب الطبقات الوسطى والعليا من المجتمع؛ كونه كان لباسا للضباط رفيعي المستوى. وزاد من شهرة المعطف ظهوره في أفلام هوليوود، حيث روج له كرمز للرجل الرومانسي والذكي، وارتبط كزيٍّ خاص بالمحققين والجواسيس في الأفلام.

وفي مقابلة، أجرتها عام 2015 مع مجلة سميثسونيان، قالت جين تينان: «إن معطف الخندق يجسد الحنين إلى الماضي.. إنه زيٌّ كلاسيكي يشبه الجينز الأزرق، إنه مجرد عنصر واحد من العناصر التي أصبحت جزءا من مفردات الملابس لدينا؛ لأنها عنصر عملي للغاية، وأنيق أيضا».

وعلى الرغم من أن العلامة التجارية أصدرت عددا لا بأس به من التحديثات على معطف الخندق، فإنه بقي محافظا على هويته الكلاسيكية حتى العشرينيات من القرن الماضي، حينما تم تسجيل كاروهات برباري كعلامة تجارية، وأصبحت البطانة المعتمدة في معاطف المطر كافة من إبداعها، وغدت بصمة مميزة للعلامة الرائدة.

مجد البريطانيين

لقد صنع معطف الخندق مجد البريطانيين، ومجد علامة برباري في السوق العالمية، وتحولت إلى إمبراطورية تدير 500 فرع لها حول العالم، وأدرجت كأحد الرواد على مؤشر «داو جونس» للاستدامة، في مجال المنسوجات والأزياء والسلع الفاخرة.

كاروهات.. وشال.. وأزمة

بعد أن نجحت برباري عام 1967 في إضافة كاروهات حمراء وسوداء كعلامة تجارية جديدة، لتعزيز هويتها ومكانتها في السوق، أطلقت الشال وطبعت الكاروهات على المظلات والحقائب وعدد كبير من منتجات الشركة، وضاعفت هذه اللمسة أرباح الشركة وتوسعاتها، لكن الأمر لم يستمر طويلا، ففي بداية الألفية 2001 وحتى 2015، تعرضت الشركة لأزمة خانقة، بسبب التقليد واستنساخ الشال من قبل الشركات الصينية، وبعض التجار في الأسواق الشعبية العالمية، وبيعه بثمن بخس في جميع أنحاء العالم.

ليرتبط بعد ذلك شال الكاروهات بثورة كرة القدم، وثقافة «تشاف» التي تعكس منطقة في شمال بريطانيا، ظهر فيها شباب من مستوى اقتصادي واجتماعي متدنٍ، وأصحاب سوابق وجرائم جنائية، كانوا يحرصون على ارتداء شالات برباري؛ ما جعل الحانات والنوادي تحظر دخول مطبوعات برباري كجزء من قواعد ملابسها، وتقوم بطرد من يرتديها.

هذه الأزمة أدخلت الشركة في دوامة كبيرة، أدت إلى تراجع مبيعاتها وسمعتها في مختلف دول العالم، وبدأت الشركة تكافح تداعيات هذه الأزمة لسنوات طويلة، قبل أن تعيد الشركة هيكلتها واستراتيجيتها، وتستعيد مجدها وسمعتها.