في زمنٍ يضجّ بالشعارات الملهمة، والدعوات لاكتشاف "الهدف الكبير من الحياة"، يبدو أن أبناءنا محاطون برسائل متناقضة؛ فبدل أن يشعروا بأن لكلٍّ منهم طريقه الخاص، يغرقون في ضغوط لا نهائية: أن يكونوا مؤثرين، ناجحين، مثاليين، وأن يحققوا إنجازات "تُصفق لها الخوارزميات".
لكن، هل هذه الغايات التي تُروَّج لهم حقيقية؟ وهل تساعدهم فعلًا على النمو؟ أم أنها تصنع لهم قلقًا يتنكر في هيئة الطموح؟
في الواقع، هناك ثلاث جهات أساسية تتنافس على تشكيل مفهوم "الغاية" في ذهن الطفل والمراهق، وكلها – للأسف – لا تضع صحته النفسية على رأس أولوياتها.
كيف يتحوّل البحث عن الغاية إلى وقود للقلق بدلًا من أن يكون مصدرًا للنمو؟
الخطابات الملهمة، الروتين الصباحي المثالي، الرفاهية الباذخة، وأجسادٌ مصقولة تحت شعار "اعرف غايتك".. هذه ليست مجرد مشاهد، بل رسائل مقنّعة تُروّج لفكرة أن الغاية يجب أن تكون استثنائية، مربحة، ومثالية بصريًا.
لكن الحقيقة أن هذه الصورة لا تعكس الواقع. فالكثير من تلك النجاحات مصدرها الحظ المناسب كوجود الفرد في محيط مناسب لتحقيق الشهرة، أو الامتيازات الطبقية، أو استراتيجيات تسويق ذكية، لا الإرادة الخالصة أو "الإيجابية".
وهنا يقع الطفل في الفخ: بدل أن يسعى لاكتشاف ذاته ومايناسبه ويناسب قدراته، يبدأ في تقليد الآخرين، والعيش في ظل معايير لا تناسبه، ولا تعبر عنه.
منذ الطفولة، يتعرّض الأطفال لرسائل تربط بين السعادة والشراء، وبين النجاح والمظهر الخارجي. تسويق الحياة "المثالية" لا يكتفي بعرض منتج، بل يبيع حلمًا مغلفًا بكلمة "هدفك".
في الإعلانات، الغاية مرادفة للقبول الاجتماعي، الجمال المثالي، والسلع باهظة الثمن. وكلما تكررت هذه الرسائل، أصبح الطفل يربط قيمته الذاتية بما يملكه أو يُنجزه لا بما هو عليه حقًا.
رغم النوايا الطيبة، أحيانًا يكون الأهل من أكبر مصادر الضغط الخاطئة.
حين نحاول إسقاط أحلامنا غير المحققة على أبنائنا، أو نربط نجاحهم بالمكانة الاجتماعية، أو ندفعهم لمسارات لا تشبههم… نزرع دون قصد في داخلهم شعورًا مزمنًا بعدم الكفاية.
وحين يفتقد الطفل الدعم لاكتشاف ما يريده هو، يلجأ لتقليد ما يُملى عليه. فيعيش لهدف لم يختره، ويشعر بالذنب إن لم يحققه.
لأن هناك فراغًا حقيقيًا في توجيههم نحو غايات متجذّرة في ذاتهم. فوسط الضجيج الخارجي، نادرًا ما يجد الطفل من يُصغي إليه ليسأله:
ماذا يهمك؟ ما الذي يجعلك متحمسًا؟ ما القيم التي تؤمن بها؟
وفي غياب هذا الصوت الداخلي، يسهل التعلق بأي صوت خارجي يبدو أكثر ثقة.
يمكننا أن نأخذ المبادرة في غرس الغايات المناسبة لأطفالنا دون تأثيرات خارجية قد تشتتهم عن أهدافهم الرئيسة، ونفعل ذلك من خلال:
لا يجب أن يكون الهدف عظيمًا ليكون مهمًا. كتابة قصة قصيرة، الاهتمام بحيوان، تطوير مهارة يدوية، كلها غايات يومية تبني شخصية مستقلة وواثقة.
بدلًا من دفع الطفل لمسار معين، لنشاركه أسئلته الوجودية، ونتقبل حيرته وفضوله، ونمنحه وقتًا ليجرب ويتعثر وينمو.
كأن نقول "أنا فخورة بأنك كنت صادقًا مع نفسك" بدلًا من "أنا فخورة بدرجتك العالية".
حين يراني الطفل أعيش بصدق مع قيمي، وأسعى خلف ما أحب دون تزييف، سأكون الدليل الأفضل له على أن الغاية لا تُقاس بالتصفيق بل بالسلام الداخلي.
الغاية ليست مسابقة، ولا منصبًا، ولا عدد متابعين. الغاية الحقيقية تُولد من الداخل، وتنمو مع التجربة، وتُقاس بالمعنى لا بالمردود.
فلنساعد أبناءنا على تمييز الأصوات التي تحاول استغلالهم، كي يجدوا صوتهم الخاص. ذلك الصوت الذي يقول:
"أنا كافٍ، كما أنا. وغايتي الحقيقية لا تُشبه أحدًا.. لأنها تخصّني وحدي."