في الثامن من آذار من كل عام، وبينما يحتفل العالم بيوم المرأة العالمي، وتقوم النساء بتحضير المؤتمرات والندوات ليبرزنَ أهم إنجازاتهنّ، هناك في الطرف الآخر من المشهد الملتبس، نساء يقبعنَ خلف القضبان بذريعة الشرف تارة، وبذريعة الشك والظن فيهنّ تارة أخرى، ما دام أن كل الحقائق التي تحميهنّ وتردّ اعتبارهنّ غائبة.
أما أعدادهن فبازدياد، سواء من هنّ خلف القبضان أو اللواتي وورين الثرى تحت عنوان: "ضحايا جرائم الشرف" وفي ذلك مفارقة يائسة.
فعدم الثقة بالفتاة أو الزوجة أو الأخت، زاد من أعداد الضحايا من النساء، وهناك من فُرض السجن عليها لحمايتها بدعوى الإجراء الاحترازي خشية قتلها، وهناك من أُزهقت روحها وحُرمت من حياتها كلها بداعي غسل العار، وتبييض شرف العائلة.
جرائم شرف لإرضاء الناس
المتخصص في الدراسات الاجتماعية الدكتور فارس العمارات، وهو يتحدث عن التقدم الكبير في منظومة الحياة بكافة أشكالها، والتطور المعرفي والعلمي، يبيّن أن سلوكيات البعض ما زالت تؤثر على المشهد الحالي الذي سرعان ما ينتزع أرواح النساء دون وجه حق. يقول: "إن كان لا بد من العقاب كنوع من الانتقام لعائلتها، فالأجدر أن تكون سلطات القضاء أو منظومة القيم التي تشهدها المجتمعات العربية بشكل عام والمجتمع الأردني بشكل خاص، والتي تتمثل في القانون والعرف والقضاء العشائري الذي يعد إحدى ركائز توازن المجتمع، هي صاحبة القرار".
يرفض العمارات شكلا ومضمونا، وقوع جريمة بهذا الاعتبار ضد المرأة مهما كان الذنب الذي اقترفته، لا سيما وأن الشك أو الريبة هما سبب ردة الفعل الوحيدة لعلاج أي مسألة قد تُنافي العادات والتقاليد، خاصة في ظل التقدم والسرعة في نقل المعلومات، وعصر الافتراضيات الذي لا يمتّ للواقع بصِلة، إنما هو مجرد إشاعة أو نقل معلومة مغلوطة أو من باب المحاولة للنيل منها والسعي للإضرار بها.
ولأن العالم أصبح مكشوفا اليوم والفضاءات مفتوحة وواسعة، فلم يعد هناك أي مجال للشك كمرجع وحجّة، كما لم يعد هناك أي تشويش قد يؤدي إلى النيل من أرواح البريئات أو إزهاق روح لم تقترف أي ذنب، تقتل أو تُطعن أو تُشوه أو تحدث عاهة لها.
جرائم الشرف والمجتمع الذكوري
المحامي الدكتور محمد الشوابكة، من جهته يؤكد أنه وفي كل مرة يسمع الجميع أخبارا مأساوية تتحدث عن قتل امرأة من قبل أقربائها بدافع "غسل العار"، فإنه مجرد وقت قصير، حتى تُطل الأخرى برأسها وعلى نحو أبشع وأشنع لتتصدر الأخبار والسوشال ميديا مرة أخرى.
جرائم بشعة جدا، كما يصفها الشوابكة، تقتضي دقّ ناقوس الخطر؛ بغية اتخاذ الإجراءات التي يمكن أن تمنع أو تحد على الأقل من هذه الظاهرة التي تمثّل تَعدٍّيا على حقها بالحياة. والأسوأ هي تلك الأوضاع والملابسات التي تحيط بالجريمة، والتي تعتبر أشد قسوة من الجريمة ذاتها، خصوصا أن شرف العائلة لديهم مرتبط بالسلوك الجنسي لأي امرأة تنتسب إليهم. بالإضافة إلى أنه كلما كانت العلاقة أقرب، كان الشعور بالعار أشد، وبالتالي وجوب الأخذ بثأر الشرف.
وما يزيد وطأة هذه الجريمة الجدلية، باعتقاد الشوابكة، الاكتفاء أحيانا بالشك والشبهات والظنون للحكم بالإدانة، سواء من أفراد العائلة أو حتى لتقدير فرد من أفرادها، فيُقدِم الأب أو الأخ منفردا بتقرير الإدانة بنفسه، ثم تأكيد الحكم بالإعدام والشروع بتنفيذه بنفسه أيضا وفق ما يرى؛ أي أن التحقيق، والحكم، والتنفيذ، كله مرتبط بمزاج فرد يتوهم أنه يمتلك حياة المرأة لمجرد أنه يرتبط معها بنَسَب ما.
ليس عند هذا الحد فقط، فتلك الأنواع من الجريمة وإن كانت معدلاتها تتزايد في المناطق التي تقطنها التجمعات التي تُعلي العصبية الاجتماعية، إلا أنها لم تنعدم في المناطق والبيئات المدنية، وما زالت الأفلام العربية تمر على هذه الظاهرة بالتوثيق.
جرائم يبررها القانون
الخطورة تكمن، يقول الشوابكة، في تبريرها قانونيا من المشرعين ورجال القانون الذين يضمنون النصوص العقابية التي تتناول تجريم هذا الفعل بالأسباب المخففة أو المانعة للعقوبة، وهو ما يدفع أحدهم لارتكابها متوهما بأنه سيفلت من العقاب بالمطلق، أو أن العقوبة التي سيتلقاها أقل بكثير من وصمة العار التي لا يمكنه قبولها، وبالتالي هذا التخفيف يدفعه لارتكابها دون خوف من العقوبة.
وهذا ما يوجب على رجال القانون في ظل الظلم الكبير الذي يقع على النساء التشدد في العقوبة لمرتكبها، بدلاً من التخفيف عنه، كي يفكر مليّا قبل الاندفاع لارتكابها، وبالتالي التقليل من أعدادها ونوعيتها مع الوقت.
جريمة من أقرب الناس
إن الأوضاع والملابسات التي تحف بالجريمة هي أشد جرما من الجريمة ذاتها؛ فقتل فتاة على يد أبيها أو أخيها أمر مرعب جدا؛ لأنه عدوان ينتهك أكثر فضاءات الأمن حميمية من شخص يفترض فيه تقديم أقصى درجات الحماية لها، ولكنه يستفيد من الأسباب المخففة، كما يرى الشوابكة.
هذه الجريمة، هي جزء من جريمة أكبر، ألا وهي جريمة اضطهاد بحق النساء، ويجب أن يأخذها المعنيون بحقوق الإنسان عامة، وبحقوق النساء خاصة، على محمل من الجد وعلى أساس أنها جزء من كلّ، والأهم محاولة نزعها من حاضنتها: التخلف، والقهر الاجتماعي، والبنية العشائرية، وبغير ذلك ستبوء المحاولات بالفشل لا محالة، على حد تعبير الشوابكة.
زيادة الإدراك والوعي هما الحل
لا بد من حملة ذات منحى فكري وتنظيمي- قانوني طويلة الأمد، تكون مؤسسة على ثوابت وحقوق الإنسان المتفق عليها؛ لأنه ومن غير المعقول أن يقتل الأخ أخته مثلا تحت بند جريمة شرف، ثم لا يكون عقابه لأكثر من 3 أو 4 أشهر يقضيها في السجن، ثم يخرج منه "مرفوع الرأس" كما يصفونه، وفق الشوابكة.
وهذا يتطلب سن قوانين تضبط علاقة المرأة بأسرتها أولا، وبزوجها لاحقا، وتمنحها كل صور الحماية وكل فضاءات الحرية التي تجعل منها ذاتا مستقلة متفردة، وهذا أمر ضروري تعززه القوانين والأحكام القضائية وتؤكده بحسم يتعزز في الوعي العام مع مرور الأيام، ويصبح ثقافة عامة حتى لغير المتعلمين وسلوكا طبيعيا بديهيا يتطبّع به الفرد طوعا.
وينتهي الشوابكة في يوم المرأة العالمي إلى ضرورة تعزيز حضور المرأة في الفضاء العام، عملا وتعاملا، وأن تكون عضوا فاعلا متفاعلا على مستوى الحضور المباشر ومنخرطة فيه على كل المستويات التي تحميها القوانين، ومستويات الوعي العام، والثقافة الاجتماعية.
وأخيرا، ينبغي تسجيل الاعتراف بأن جمعيات المجتمع المدني وحقوق الإنسان استطاعت خلال السنوات القليلة الماضية أن تفرض على المشرّعين والمجالس النيابية الاعتراف بالحاجة لعمل شيء ما، إلا أن النتائج لم ترتق حتى الآن إلى المستوى المطلوب.